أعمدة الإنارة خارج نطاق الخدمة.. والرعب من طريق أسيوط الزراعى يمنع المسافرين من ارتياده فى الطريق الصحراوى الغربى، حتى بعد ازدواجه، تنتظرك عربة نقل متهورة، أو أتوبيس جامح.. وفى الطريق الصحراوى الشرقى منحنيات خطرة، وطرق صاعدة وهابطة، وفى كليهما تبقى الحوادث المروعة احتمالاً وخطراً لا مفر منه. لم يبق أمام أهل الصعيد إلا احتمالان، إما الطريق الزراعى، أو القطارات، وبما أن الأخيرة لا تكفيهم، فإنهم مضطرون إلى الأول، وهنا كل شىء وارد.. ترعة الإبراهيمية على أحد جانبيك وحارة مرورية معاكسة دون فاصل على جانبك الآخر، مارة يعبرون الطريق وماشية ومطبات أهلية ومنحنيات أشد خطورة، من يخطئها يصبه القدر. قد تعجب عندما تذهب إلى موقف سيارات أسيوط، تبحث عن سائق يصاحبك فى رحلتك إلى قلب الصعيد عبر الطريق الزراعى، ثم لا تجد، الجميع هنا يفضل الصحراوى.. «اختر ما شئت بينهما، الشرقى أو الغربى، أما الزراعى فهذا درب من جنون» هكذا قالوا لنا، كى تبدأ الرحلة فى الساعات الأولى من الصباح، تحتاج إلى سائق يرضى بإغراءاتك المالية المبالغ فيها،فلا يوجد شىء آخر يغريه على السير فى طريق «الموت» كما يسمونه سوى المال، ثم استقصى عن عدد مرات سيره فى هذا الطريق، وعن الأوقات التى سار فيها، هل جربه ليلاً أم نهاراً، ويجب أن يكون حافظاً له عن ظهر قلب، يعلم منحنياته ويعرف متى يضيق ومتى يتسع، يحفظ مطباته عن ظهر قلب، يتمتع بطول البال والصبر، فسرعته لأكثر من 8 ساعات لن تتجاوز الستين كيلو متراً فى الساعة، لذا يجب أن تكون سيارته بحالة جيدة، وأن تظل منتبهاً إلى جواره تتحدث معه فى أى شىء.. وأشياء كثيرة ستعرفها خلال هذه الرحلة. منذ بداية الرحلة من جنوبالجيزة متجهاً إلى مدينتى العياط والبدرشين، يكون الطريق مقبولاً إلى حد ما، لكن بمجرد الاقتراب من حدود محافظة بنى سويف، تقل المسافات بين المطبات الصناعية ليكون لزاماً عليك مقابلة مطب جديد كل كيلومترين، بعضها يرتفع لأكثر من 03 سنتيمتراً، يستلزم أن تكون السيارة على سرعتها الدنيا. المطبات على الطريق الزراعى لها استخدامات أخرى.. فعند مداخل القرى والمدن المطلة على الطريق، وبالقرب من هذه المطبات تجد طفلاً أو شيخاً يمسك صندوقاً خشبياً، يجلس إلى جوار لافتة تدعو المارة للتبرع لبناء مسجد ومستشفى للقرية، وما أن يجدوا سيارة تعبر مدخل القرية مبطئة حتى يهرعوا إليها بصندوق التبرعات. الرحلة مليئة بالمفاجآت، فقد تتوقف فجأة أمام طفل لم يتجاوز عمره سبع سنوات يعبر الطريق مسرعاً إلى الناحية المقابلة ليركب إحدى سيارات الأقاليم التى وقفت فى عرض الطريق لالتقاط الركاب، وقد تجد قطيعاً من الماشية والأبقار يقطع الطريق تاركا خلفه زوبعة من التراب تجبرك على الانتظار لحين زوالها خوفاً من القادم فى الاتجاه المعاكس، فعلى هذا الطريق وباستثناء مدخل «بنى سويف»، لا توجد حارات أسمنتية تفصل بين الحارتين فى هذا الطريق المزدوج الذى يصل فى أقصى عرض له 11 متراً، قمنا بقياسها بالياردة، علاوة على اختفاء الفواصل المرسومة بالطلاء على الطريق وعدم وجود أعمدة للإنارة لمسافات طويلة متقطعة. الخطورة على طريق الصعيد الزراعى تزداد بالنسبة للمتجهين إلى الجيزة، فأى مفاجأة تلقى بك مباشرة فى ترعة الإبراهيمية، التى تآكل الجزء الأكبر من سياجها الحديدى ولم يتم استبداله أو ترميمه، وقد تفاجأ بقطار يقطع الطريق أمامك فى «أبويط»، دون أن تجد إشارة ضوئية أو حاجزاً يمنع السيارات من المرور أو شرطياً يحذر المارة. بعد تجاوز مدخل بنى سويف، ومروراً ب«الفشن» و«ببا» و«الواسطى» و«ناصر»، تلاحظ أن لافتات الطريق وضعت على قوالب من الطوب الأحمر، بعضها سقط فى جانب الطريق، وبعضها الآخر يشير إلى أماكن خاطئة. أثناء الرحلة وجدنا سيدة تحمل طفلها وتجر أغناماً تريد أن تعبر بها الطريق، جعلت إحدى السيارات تنحرف عن مسارها، فاصطدمت بشاحنة قادمة من الاتجاه المعاكس وسقطتا فى ترعة الإبراهيمية. وبعد بضعة كيلومترات، وفى المنطقة بين مغاغة وبنى مزار، وجدنا سيارتين للشرطة والإسعاف وثالثة تحمل زورق إنقاذ، ظننا فى البداية أنهم يبحثون عن ضحايا آخرين للأتوبيس المنكوب، إلا أننا سرعان ما عرفنا أنهم يبحثون عن ضحايا تصادم تاكسى وسيارة ملاكى، ولم تتمكن فرقة الإنقاذ إلا من انتشال جثتين فقط. بقايا الأتوبيس الذى راح ضحيته 16 شخصاً لاتزال رابضة على جانب الطريق وكأنها نصب تذكارى يؤرخ للحادث.. سائق السيارة التى كانت تقلنا راح يشير إلى أماكن يضيق الطريق فيها ليصبح 6 أمتار فقط، وشاهد حوادث مروعة راح يقصها وكأنه يحفظها عن ظهر قلب.. لكل مدخل قرية حادثة، ولكل مطب ضحاياه، ومياه ترعة الإبراهيمية والحقول الممتدة على جانبى الطريق تشهد على الأعداد المهولة لضحايا «طريق الموت». المرحلة قبل الأخيرة والتى تبدأ ب«ديرمواس» - آخر مراكز المنيا - وتنتهى بمدينة أسيوط، مروراً بمركز «أبوقرقاص» و«ديروط»، و«القوصية» و«منفلوط»، كانت الأكثر إثارة وخطورة، التقاطعات هنا كثيرة، سيارات تخرج من طرق جانبية إلي منتصف الطريق - حيث لا يوجد منتصف للطريق - فهى إما أمامك مباشرة أو فى قبالة القادم من الاتجاه المخالف، ولولا شجاعة يحسد عليها سائقو هذا الطريق لتضاعفت أعداد الضحايا. وفى العودة اخترنا الطريق الصحراوى الغربى، والذى كان رغم تحسن حالته فى كثير من الأحيان أكثر رعباً وخطورة من الزراعى، الوصلات المؤدية إلى هذا الطريق غير ممهدة تماماً، ولا يوجد لها أى لافتات أو أعمدة إنارة، ومن السهل جداً أن تضل طريقك فى قلب الصحراء بحثاً عن الطريق الرئيسى، كما أن هذه المنطقة لا توجد بها شبكات تقوية للمحمول، حاولنا استخدام هواتف الشركات الثلاث فكانت جميعها خارج التغطية، أعمدة الإنارة صدئة وملقاة فى قلب الطريق، الأجزاء المضاءة تدل على الاقتراب من إحدى اللجان على الطريق، سوى ذلك أنت مجبر على الاعتماد على أضواء سيارتك، فأى حادثة تعنى الوفاة مباشرة، فطوال رحلة امتدت على الطريق الزراعى لأكثر من 8 ساعات، والعودة فى اليوم نفسه على الطريق الصحراوى الغربى، لم نشهد سوى نقطتى إسعاف فقط، فى محافظة المنيا على الطريق الزراعى والثانية على الظهير الصحراوى. الرحلة إلى أسيوط قد تستغرق نصف يوم.. تتكلف فى الغالب جنيهات قليلة، إلا أنها فى كثير من الأحيان تكلف الكثيرين من زوار صعيد مصر أعمارهم كاملة أو على الأقل إصابات تلازمهم ما بقى لهم من حياة.. الطريق إلى الصعيد ليس له ضوابط ولا توجد به أى خدمات أو مرافق رغم مروره بأربع محافظات رئيسية.. الركاب يتجنبون السفر فيه، والسائقون يخافون المرور عليه، ومجرد ذكره يجعلك تسترجع - لا إرادياً - من ذاكرتك مخزون لا ينضب لحوادث ودماء سالت على هذا الطريق الذى استحق عن جدارة لقب «طريق الموت».