«لو أن الأفكارَ يمكن أن تُرى!» هكذا تمنى رينيه ماجريت، الفنان البلجيكى (1898-1967)، أن يرسمَ «الأفكارَ» المجنونةَ، التى قد تعنُّ لخيالنا الجامح، فلا يقدر أن يصوغَها الشعراءُ كلماتٍ، ولا الفنانون ألوانا، ولا الموسيقيون نغمًا. قد لا يكون ماجريت أكثرَ من أحبُّ من سُرياليين، لكنه الأكثرُ استفزازا لخيالي. مرّةً يرسم تفاحةً، ويكتب تحتها: «هذه ليست تفاحة!» ومرّةً يرسم غُليونا وأيضا يكتب: «هذا ليس غليونا!» (طالع اللوحة فى الصفحة الأخيرة من الجريدة). ثم يعطى اللوحات عنوان: «خيانة الصور». والأمرُ قد يُفهم على معنيين. 1- أن الغليون المرسوم، ليس غليونا بالفعل، إن هو إلا صورةُ غليون. مجرد ورقة مرسومٌ عليها غليون. وهنا الخيانةُ؛ لأنك لن تقدر أن تمدَّ يدَك وتحشو الغليونَ تبغا، وتدخن، أو أن تقضم التفاحة! المعنى الآخر هو الدعوة لأن ننظرَ إلى عمق الأشياء لا إلى ظاهرها. لأن اسم الشيء لا يعنى الشىء نفسه. فكلمة «وردة»، لا تحمل لونَ الوردة ولا رائحتَها ولا جمالَها. هى كلمة أطلقها أحدُهم من قديم على هذا الكائن البديع، وورثنا نحن الكلمةَ كدالٍّ على مدلولٍ هو الوردة، لكن الدلالةَ والجمالَ والشكلَ والعطرَ لا تكون إلا فى الوردة ذاتها. فاللغةُ، أيّةُ لغةٍ، عاجزةٌ بامتياز عن كشف هُوية الشىء. والأسماءُ اعتباطيةٌ لا معنى لها. لذا سنجده فى لوحة أخرى يرسمُ مجموعةً من الأشياء: حذاء، بيضة، شمعة، قبعة، مِطرقة، كوب؛ ثم يكتب جوار كلّ شىء اسما مخالفا لاسمه المعروف: الحذاءُ = قمرٌ، البيضةُ = شجرةُ أكاسيا، الشمعةُ = سقفٌ ، القبعةُ السوداء = ثلجٌ، المطرقةُ = صحراءُ، الكوبُ = رعدٌ. ثم يؤلف ميشيل فوكو، الفيلسوف والناقد الفرنسى، كتابا عنوانه: This Is Not a Pipe ، يناقش فيه فكرة التناقض فى لوحة الغليون. وفى لوحة أخرى رسم ماجريت سمكةً نائمة على شاطئ لكن ذيلها ساقا امرأة، عكس عروس البحر كما صورتها لنا الأساطير: امرأةً بذيل سمكة. وفى أخرى رسم جسدَ امرأةٍ عارية، نصفُها العلوىّ بلون السماء، والسفلى بلون طمى الأرض. فى العام 1937 رسم ماجريت رجلا ينظر فى المرآة وظهره لنا. من الطبيعى أن نشاهد على صفحة المرآة انعكاسَ وجه الرجل ظاهرا لنا. لكننا لن نرى إلا ظهر الرجل أيضا. لن نرى وجهه أبدا. وسمى اللوحة: «لا يمكن إعادة إنتاجه». وفى لوحة أخرى اسمها «العاشقان»، نرى رجلا يُقبّل امرأةً، لكن رأسىْ العاشقينْ مُغطيان بقطعتىْ قماش تُخفى ملامحَهما. وفى أخرى نجد وجه رجل أمامه كرةٌ ضخمة تخفى ملامحه. وفى أخرى رأسُه ليس إلا كتلةَ ضوءٍ صماء. وفى أخرى رسم حذاءً تطلُّ منه أصابع قدم. بلا ساقين ولا إنسان. والشاهد أن الملامح البشرية مختفية فى معظم أعمال ماجريت، ربما فلسفته فى ذلك أن التعيينَ والتحديدَ محضُ عبث. فمثلما أسماءُ الأشياء لا تحددها ولا تميزها، فالملامحُ كذلك لا تحدّد البشرَ ولا تميزهم. ثمة شىءٌ أعمقُ مطلوبٌ لتحديد الأشياء والأشخاص. ربما الهُوية، ربما الجوهر، وليس الاسم والشكل الظاهرى. أما أجمل لوحاته فعنوانها «محاولة المستحيل». رسم فيها فنانا يمسك ريشةً وباليتة ألوان، ويرسم فى الهواء امرأة. وتتشكل المرأةُ بالفعل لتستوى أمامه بشرا سويا. واقفةً قبالته هناك على أرضية الغرفة، وليس فوق لوحة الرسم. [email protected]