عبر ليلة كاملة وبعض من نهار، راح القطار ينهب بنا الأرض فى الطريق من «القاهرة» إلى «أبنود».. طريق مرهق طويل، لم تخفف من طوله روعة مناظر الأرض الزراعية الممتدة النيل هناك حيث يزحف الجبل على الزراعات كلما أوغلنا فى الجنوب، صانعاً منها شريطاً يتسع ويضيق حسب درجة قربه أو ابتعاده عنها، مُشكّلاً بذلك طبيعة البشر قبل أن يُشكّل طبيعة المكان، هناك حيث الأرض الخشنة.. والبيئة القاسية.. والحكايات التى لا تنتهى.. هناك حيث ولد وعاش وكبر عبد الرحمن الأبنودى. كان علينا بمجرد الهبوط فى محطة قنا أن نستقل سيارة نصف نقل، مغطاة من جميع الجوانب، يطلقون عليها «كبّوت» هى وسيلة المواصلات الوحيدة من مدينة قنا إلى قرية أبنود، تتعثر عشرات المرات وتميل يميناً ويساراً بفعل مئات الحفر فى الطريق غير المرصوف الذى يسير شرق النيل بمحاذاة شريط السكة الحديد، لتقطع فى نصف ساعة تقريباً مسافة تقترب من 18 كيلو متراً هى التى تفصلها عن مدينة قنا. إدارياً القرية تتبع مدينة قنا.. حدودها تمتد بين قرية الأشراف شمالاً و«الكلاحين» جنوباً، بينما تجاورها قرية كرم عمران من الشرق ونهر النيل من الغرب، تعداد سكانها يصل إلى 25 ألف نسمة، وتضم 18 مسجداً وكنيسة واحدة تخدم 1800 مسيحى من أهل القرية، وبالإضافة إلى 4 مدارس ابتدائى و2 إعدادى ومدرسة واحدة ثانوية، فإن القرية تضم 3 مدارس تابعة للتعليم الأزهرى للمراحل الثلاث، وهى تضم نسبة كبيرة من المتعلمين الذين أتموا تعليمهم الجامعى. كما أن عدداً لا يستهان به منهم اكتفى بالدبلوم كمؤهل متوسط لا يعطله عن العمل فى زراعة الأراضى التى تقع فى زمام القرية وتبلغ مساحتها 1749 فداناً موزعة بين أهالى البلدة بنسب مختلفة، وبينما تسود فى القرية زراعة القمح كمحصول رئيسى، توجد بعض الزراعات الأخرى مثل الطماطم والذرة، والقصب بنسبة ضعيفة. تبدو القرية متمدنة قليلاً، تكاد تتعرف فيها بالكاد على الطابع الريفى، شوارعها واسعة والبيوت مبنى معظمها بالطوب الأحمر تتجاوز ارتفاعاتها فى أحيان كثيرة الطابق الثالث، فى حين لا يزال بعض البيوت القديمة محافظاً على الطابع القديم. واقع كان الأبنودى يستشرفه من قبل عندما كتب فى إهداء أحد دواوينه الشعرية يقول : «إلى طفلتى آية ونور.. لتعرفا أن لهما قرية وهبتنى ما لم تهبه قرية لابن، وأهلاً حشوا صدرى بكلماتهم التى جعلت منى شيئاً.. لقد تغير الزمن، أخشى إذا كبرتا وذهبتا إلى أبنود ألا تجدا شيئاً مما كتبت. سيكون كل من عاشرتهم رحلوا مثلى، بعد أن تغيرت البيوت والدروب والقيم». كان الأبنودى محقاً إلى مدى بعيد، فمن ناحية شهدت القرية تطويراً كبيراً، ومن ناحية أخرى لم تكن أبنود بالنسبة له مجرد قرية، وإنما تجاوزت ذلك بكثير، بالنسبة له هى رقيته وتميمة حظه.. معين شعره الذى اختزنه فى الذاكرة منذ كان طفلاً يدب بأقدامه الصغيرة على تراب دروبها. ينتمى الأبنودى بالنسب إلى عائلة «التروسة»، وهى واحدة من عدة عائلات تمتلئ بها القرية مثل «العجمية» و «شاهين» و «الأسد» و «القرافية»، يرجع الفضل فى تسميتها بهذا الاسم إلى جدها الكبير الذى يروى عنه أنه تسابق مع رفاق له فى القرية على حمل ترس الساقية العملاق الذى فشل الجميع فى حمله واستطاع وحده أن يرفعه فأطلقوا عليه «أبو ترس» أو»الترس»، وأصبح أبناؤه هم «أولاد أبو ترس» أو «التروسة». الأبنودى واحد من هؤلاء «التروسة»، حملت أبنود بصمة قدمه فى شوارعها منذ أواخر ثلاثينيات القرن الماضى، بصمة راح الأبنودى يبحث عنها عندما عاد إلى القرية فى احتفالية كبيرة أقامها عام 2000 ومنحها عنوان «عودة الجذور» ودعا إليها عدداً من المثقفين والسياسيين والتنفيذيين.. احتفل الأبنودى بعودته إلى جذوره بعد غياب قيل إنه استمر لأكثر من عشرين عاماً.. تُرى ما الذى دار فى عقل الأبنودى وهو يدخل القرية من شارعها الرئيسى الذى يحمل اسمه الآن؟، ما الذى فكر فيه وهو يمر أمام بيت عمته «يامنة» بطلة قصيدته الشهيرة، وهو بالمناسبة لا يزال موجوداً حتى هذه اللحظة، مغلق بعقلة قصب جافة؟، هل سرحت عيونه حتى المراعى القريبة تبحث عن طفل صغير يرعى الأغنام، ويلهو مع الرفاق الصغار؟، هل سيطر عليه شعور الاعتراف بجميل أبنود عليه، وشغلته الطريقة التى يرد بها هذا الجميل؟. أياً كانت الأسئلة التى دارت فى عقل الأبنودى فهذا لا يهم، المهم أنه عاد مرة أخرى يتمشى فى دروب البلدة، وينظر إلى بيوتها، ويضع بذرة مشروع ثقافى من المنتظر أن تدين به القرية إليه ما بقى من عمرها، مشروع الأبنودى تمثل فى متحف للسيرة الهلالية، ملحقة به مكتبة للطفل وأخرى للشباب، ومزود بغرفتين لإقامة الدارسين الذين من المتوقع أن يفدوا إلى القرية لجمع مادة عن السيرة الهلالية. وهما الغرفتان اللتان قال عنهما عبد الرحمن الخطيب مدير المتحف إن الأبنودى فكر فى إقامتهما لتوفير الراحة لأى دارس يهبط بالبلدة، بعد أن عانى هو شخصياً من فكرة الإقامة أيام كان يرحل ويجول فى القرى لتوثيق السيرة وجمعها خلال سنوات طويلة. المشروع الذى إقامته وزارة الثقافة وتسلمه صندوق التنمية الثقافية لإدارته افتتح الأبنودى مكتبته مبدئياً فى عام 2004، واختار كل الموظفين من الفتيات والسيدات، واشترط أن يكن كلهن من أهالى أبنود من حاملات الشهادات الجامعية، فتولت أحلام حامد مسؤولية مكتبة الشباب، وهدى عبد العليم مكتبة الأطفال، وجاكلين صلاح، وعبيدة عباس قاعة الكمبيوتر، وصباح خضرى مسؤولية المتحف.