نائبة بالشيوخ تستعرض تفاصيل طلب مناقشة حول جودة التعليم    مركز تدريب "الطاقة الذرية" يتسلم شهادة الأيزو ISO 2100: 2018    "صحتك تهمنا" حملة توعية بحرم جامعة عين شمس تقدم كشفا بعدد من التخصصات الطبية    أسعار البيض اليوم الاثنين في الأسواق (موقع رسمي)    الثلاثاء.. أكاديمية البحث العلمي تعقد أنشطة احتفالا بيوم اليتيم    رئيس الوزراء: ما يحدث في غزة يخالف كل ما تعلمناه وسمعناه من الغرب عن حقوق الإنسان    الرئيس السيسي: مصر تحملت مسئوليتها كدولة راعية للسلام في العالم من خلال مشاركتها بعملية حفظ وبناء سلام البوسنة والهرسك    مصرع 42 شخصًا على الأقل في انهيار سد سوزان كيهيكا في كينيا (فيديو)    "3 فترات".. فيفا يصدم الزمالك ويعلن قراره رسميا    5 نقبوا عن الآثار في الجيزة.. قرار عاجل من النيابة العامة    بالصور.. أحمد صلاح السعدني في جنازة عصام الشماع بمسجد السيدة نفيسة    قبل الحلقة المنتظرة.. ياسمين عبد العزيز وصاحبة السعادة يتصدران التريند    ارتفاع الكوليسترول- هل يسبب ألم العظام؟    تحرير 186 مخالفة عدم التزام بقرار الغلق للمحلات لترشيد استهلاك الكهرباء    الجندي المجهول ل عمرو دياب وخطفت قلب مصطفى شعبان.. من هي هدى الناظر ؟    التضامن الاجتماعي: إتاحة سينما للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية    إيرادات قوية لأحدث أفلام هشام ماجد في السينما (بالأرقام)    أنشيلوتي لا يعرف الخسارة أمام بايرن في دوري أبطال أوروبا    «اقتصادية قناة السويس» تستقبل نائب وزير التجارة والصناعة الإندونيسي والوفد المرافق له    وزير الصحة: توفير رعاية طبية جيدة وبأسعار معقولة حق أساسي لجميع الأفراد    صعود سيدات وادي دجلة لكرة السلة الدرجة الأولى ل"الدوري الممتاز أ"    عواد: كنت أمر بفترة من التشويش لعدم تحديد مستقبلي.. وأولويتي هي الزمالك    عرض صيني لاستضافة السوبر السعودي    محافظ أسيوط يشيد بمركز السيطرة للشبكة الوطنية للطوارئ بديوان عام المحافظة    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    «أزهر الشرقية»: لا شكاوى من امتحانات «النحو والتوحيد» لطلاب النقل الثانوي    استمرار حبس 4 لسرقتهم 14 لفة سلك نحاس من مدرسة في أطفيح    1.3 مليار جنيه أرباح اموك بعد الضريبة خلال 9 أشهر    فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا.. «البحوث الإسلامية» يطلق حملة توعية شاملة بمناسبة عيد العمال    «العمل» تنظم فعاليات سلامتك تهمنا بمنشآت الجيزة    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين من البصخة المقدسة بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    إعلام عبري: عشرات الضباط والجنود يرفضون المشاركة في اجتياح رفح    أبو الغيط يهنئ الأديب الفلسطيني الأسير باسم الخندقجي بفوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    محافظ الغربية يتابع أعمال تطوير طريق طنطا محلة منوف    كيف احتفلت الجامعة العربية باليوم العالمي للملكية الفكرية؟    محمد شحاتة: التأهل لنهائي الكونفدرالية فرحة كانت تنتظرها جماهير الزمالك    عامر حسين: لماذا الناس تعايرنا بسبب الدوري؟.. وانظروا إلى البريميرليج    بالاسماء ..مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    الوادي الجديد تبدأ تنفيذ برنامج "الجيوماتكس" بمشاركة طلاب آداب جامعة حلوان    المشاط: تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري يدعم النمو الشامل والتنمية المستدامة    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    مؤسسة أبو العينين الخيرية و«خريجي الأزهر» يكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين.. صور    ضربه بالنار.. عاطل ينهي حياة آخر بالإسماعيلية    ولع في الشقة .. رجل ينتقم من زوجته لسبب مثير بالمقطم    مصرع شخض مجهول الهوية دهسا أسفل عجلات القطار بالمنيا    «الرعاية الصحية» تشارك بمؤتمر هيمس 2024 في دبي    خلي بالك.. جمال شعبان يحذر أصحاب الأمراض المزمنة من تناول الفسيخ    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    رمضان السيد: الأهلي قادر على التتويج بدوري أبطال إفريقيا.. وهؤلاء اللاعبين يستحقوا الإشادة    سعر الذهب اليوم الاثنين في مصر يتراجع في بداية التعاملات    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    البحوث الفلكية: غرة شهر ذي القعدة فلكيًا الخميس 9 مايو    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    كوريا الشمالية: لا يمكن للولايات المتحدة هزيمة الجيش الروسي    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النوبة.. قرن من المرارة (الحلقة الأولى) بيوت متشققة.. وأبناء مهاجرون.. وأراضى جدباء.. ووعد لم ينفذ منذ 48 عاماً

موقنون أنهم أصل الحضارة المصرية القديمة، فخورون بانتمائهم إلى نسل ملوك وملكات الفراعنة، يقابلونك بابتسامة كاملة تزينها أسنان بيضاء، تبرز سمرة بشرتهم، يتحدثون بعيون تملؤها الطيبة، ممزوجة بالحنين، إلى تلك الأرض الأولى المشبعة بطمى النيل المتشحة بنسيمه.
يتحدثون عن الجذور بولع وشغف فتمنحك كلماتهم الإحساس بأن حياتهم توقفت عند تلك اللحظة، التى انتقلوا فيها من قراهم المطلة على النهر، رافضين فكرة السكنى فى القرى التى نقلوا إليها معتبرين إياها، رغم سنوات العيش بها والتى تعود لعام 1963 مجرد مأوى مؤقت، سينتهى بعودتهم إلى أرض الأجداد، التى لم يرتضوا غيرها بديلاً، وحتى لا تسىء فهمهم يؤكدون لك طوال الوقت، أنهم مصريون حتى النخاع، لا تراودهم أحلام الانفصال، أو إقامة حكم ذاتى، مستنكرين ما يردده البعض، سواء ممن ينتمى لهم أو سواهم، حول تلك الأفكار، متسائلين: «وماذا نملك من مقومات تلك الدولة المزعومة؟ لا دولة لنا سوى مصر، ولا حكومة لنا إلا حكومتها، ولكن فى القلب غصة من وعود لم تنفذ،وحال كدنا نفقد فيه الهوية واللغة، وتزداد فيه هجرة الأبناء عن أرض الجدود».
الحديث عن سكان قرى التهجير فى بلاد الذهب، «نبو» التى عرفناها ب«النوبة» تلك البقعة من مصر الممتدة بين أسوان فى الشمال وحتى الشلالين الأول والثانى فى أقصى الجنوب المصرى، نوبيون تكسوا ملامحهم البساطة، فتنعكس على كل ما يقومون به تتبدى عند استقبالهم الغريب فى بلادهم فيجعلونه «صاحب بيت» له حق الضيافة والأمان والإكرام وهنا تتذكر ما قاله المقريزى عنهم فى خططه «النوبيون يشبهون النيل فيهم كرم وسماحة».
يأخذك الحديث عن النوبة إلى الغوص فى تاريخها القديم، فتعرف أنها كانت بلاداً تمتد من «أسوان» فى الشمال، حتى تصل مدينة «الدبة» الواقعة بالقرب من الجندل الرابع داخل السودان، وهى المنطقة التى سمتها الكتابات المصرية القديمة باسم «تاستى» وتعنى «أرض القوس» وهو السلاح الذى برع فى استخدامه أهل النوبة القدماء.
كانت «واوات» هى بلاد النوبة السفلى، القابعة فى الأرض المصرية، بينما أطلق على الجزء الجنوبى منها، فى السودان اسم «كوش» كانت بلاد النوبة حلقة الوصل بين الشمال والجنوب عبر نهر النيل، فاكتسبت منذ القدم أهمية بالغة من الناحيتين العسكرية والتجارية، بشكل جعلها على صلة بمختلف الحضارات والأجناس.
ويقول «ول ديورانت» فى الجزء الثانى من «قصة الحضارة»: «ما من أحد يعرف من أين جاء المصريون الأولون؟ ويميل بعض العلماء الباحثين، إلى الرأى القائل بأنهم مولودون من النوبيين والأحباش» وتعود آثار النوبيين فى جنوب مصر، إلى أكثر من 10 آلاف سنة، حيث وجدت آثار فى وادى حلفا بمنطقة خور موسى، تشير لاعتماد الإنسان النوبى على الصيد وجمع الثمار وصيد الأسماك، إلى جانب آثار أخرى فى منطقة خوربهان بشرق أسوان تدل على احتراف النوبيين الزراعة، وفى سنوات لاحقة نزحت جماعات من النوبيين، إلى منطقة الشلال الثانى، ليحترفوا الزراعة البدائية.
ويقول دكتور جمال حمدان فى تحفته «شخصية مصر»: كان النوبى أول إنسان زرع ورعى الماشية منذ أقدم الحضارات، ساعده فى ذلك، ترسب التربة الطينية الصالحة للزراعة على جوانب النيل مع قدوم الفيضان مما جعل الأراضى النوبية حول شريان النيل.
ومن أقدم الزراعات النوبية شجر الأبنوس الذى عرف منذ الأسرة الأولى، 3200 قبل الميلاد، كما عرفوا مزروعات أخرى فى العصر الحديث مثل اللوبيا، والبصل، واعتمدت الزراعة فى النوبة على الأدوات البسيطة كالفأس، والجاروف والمحراث والساقية والمنجل.
كانت فكرة الدولة المصرية الموحدة قد بدأت فى التجسد على أرض الواقع، ليكون توحيد الشمال والجنوب فى كيان واحد يضمن طريق التجارة عبر أفريقيا، ويؤمن الحدود الجنوبية لمصر، وبحلول العام 2900 قبل الميلاد، كانت النوبة بأكملها مصرية.
ولكن فى عام 1700 قبل الميلاد، نجحت مملكة «كرمة» التى كانت فى شمال السودان عند الحدود مع مصر فى ضم النوبة المصرية إلي نفوذها وهو ما استمر حتى عام 1550 قبل الميلاد، حينما تولى الملك أحمس حكم مصر وطرد الهكسوس، وأسس الأسرة الثامنة عشرة لتعود سيطرة المصريين على أرض النوبة فى الجنوب المصرى.
«النوبة هى أصل الحضارة الفرعونية، حتى إن ملوكنا وملكاتنا الجميلات المحندقات نوبيات، عدا نفرتيتى التى يقال إنها من أصول غير مصرية، أما «حتشبسوت»، و«نفرتارى»، و«تيتى» حماة إخناتون، وغيرهن فمن النوبة وأنا أرى أن حماة إخناتون هى صاحبة أجمل شفتين فى تاريخ مصر الفرعونية وأجمل أنف أيضاً،
أما الوجنات فهى بارزة وهذا يدل على أصلها الأفريقى» كان ذلك بعض قليل من كلمات كثيرة كتبها الكاتب أنيس منصور عن النوبة، وأضاف عليها قائلاً: «كانت بلاد النوبة على صلة مباشرة بأوروبا، دون أن تتوقف عند مدن الوجه البحرى والعاصمة منف، وفى الوثائق الإغريقية، نجد أن أهل النوبة ونبلاءها وملوكها، هم أيضاً الذين علموا مصر والإغريق، نظام الملك ونظام الترقى بين الوظائف».
تطورت الديانات فى أرض النوبة، وارتبطت بتطور مفاهيم العبادات الدينية عند المصريين القدماء، ففى عهد أمنحوتب الأول كان الإله المعبود هو حورس، بينما عبد «آمون رع ورع حارختى» فى عهد حتشبسوت وتحتمس الثالث، وأمنحوتب الثانى، وفى عهد الملك رمسيس الثانى، انتشرت صور عبادة الملك الإله إلى جوار الآلهة، ومع نهاية الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، بات آمون رع هو المعبود الرئيسى فى بلاد النوبة.
أما المسيحية فلم يعرفها أهل النوبة إلا فى القرن الخامس الميلادى، وتحول الكثير من المعابد الفرعونية إلى كنائس مورست فيها الشعائر المسيحية.
أما الإسلام فلم يدخل النوبة، إلا بعد سنوات من فتح مصر، حين بدأ العنصر العربى التوافد على بلاد النوبة، فى القرن الثالث الهجرى، عن طريق ممارسة التجار العرب أنشطتهم فى بلاد النوبة، حيث كانوا يحضرون لشراء الذهب والزمرد وبعض المعادن الثمينة، إلى جانب استقرار بعض القبائل العربية فى بلاد النوبة ومنها بنى ربيعة وبنى جهينة ليرتبطوا مع النوبيين فى علاقات مصاهرة، انتشر عن طريقها الإسلام فى بلاد الذهب.
وعلى الرغم من خصوصية المجتمع النوبى وثقافته وتراثه، إلا أنك تشعر عند التبحر فيه، بأنه مزيج من حضارات كل شعوب العالم، وهو ما عبر عنه الأديب النوبى، حجاج أدول بالقول: «مهما اختلف العلماء والمؤرخون حول معرفة الأصل النوبى، فالواضح لدينا أنه قد وفدت شعوب كثيرة إلى منطقة النوبة، قاهرا، أو لاجئاً، أو مستسلماً، منذ عهد الفراعنة، من العرب والأتراك، والمماليك والرومان، ومن المغرب العربى وغيرها. ومازال هذا الشعب باقياً على سماته النوبية الأصيلة، تلك الجنسيات على اختلاف منبعها، ذابت وانصهرت فى الشخصية النوبية».
وهكذا عاشت النوبة فى قلب مصر، تدين بديانتها منذ عهد الفراعنة، وتحكم بحكامها، ويسرى عليها ما يسرى على المصريين، رغم عدم وجود حدود فاصلة بين شمالها فى مصر، وجنوبها فى السودان، حتى كان عام 1841 حينما أصدرت الدولة العثمانية التى كانت تحكم أغلب الوطن العربى، فرمانا بترسيم الحدود الجنوبية لمصر، تلتها الاتفاقية الثنائية بين مصر والاحتلال البريطانى فى عام 1899، والتى أدت فى النهاية إلى فصل جنوب مصر عن شمال السودان، بعد أن كانا قطراً واحداً، فانقسمت بلاد النوبة إلى شطرين، نوبة مصرية تمتد من قرية أدندان جنوباً وحتى الشلال شمالاً، وأخرى سودانية جنوب خط عرض 22.
وأدى هذا الفصل الجغرافى والمكانى لتلك البقعة إلى فصل نفسى وإنسانى أيضاً، حيث عانت بعض العائلات من التقسيم وهو ما يقول عنه «عم دهب» أحد كبار أهل النوبة الآن: «كانت النوبة بلاداً واحدة، لا وجود لما يسمى النوبة المصرية أو النوبة السودانية، وكان الأجداد يعيشون على امتداد المسافة من أسوان وحتى داخل السودان، وجاء قرار الترسيم العثمانى الذى لم يراع البعد الإنسانى، ورغم ذلك مازلنا حتى اليوم نتزاور فى المناسبات والأعياد وحفلات الزواج، ونمارس العادات والتقاليد نفسها».
وعلى الرغم من عشق النوبى للنيل الذى تربطه به علاقة وثيقة فإن النيل والرغبة فى الحفاظ على مياهه وتوفيرها، كان سبباً فى معاناة أهل النوبة. كانت المرة الأولى حينما قررت الحكومة المصرية عام 1902 إنشاء سد أسوان للتحكم فى مياه نهر النيل بشكل أفضل، وهو ما نتج عنه احتجاز فائض من المياه خلف السد بلغ منسوبه 106 أمتار، تسببت فى إغراق نحو 10 قرى نوبية بأراضيها ومنازلها.
وقتها طالب النوبيون بالتعويض، فقدرته الحكومة المصرية بنحو 80 ألف جنيه، ولكنه لم يرض النوبيين واعترضوا عليه، فصدر قرار الحكومة بنزع ملكية الأراضى من سكان المنطقة للمنفعة العامة فى العام نفسه وتتكرر قصة النوبيين مع سد أسوان فى عام 1912 حين تمت التعلية الأولى للسد ومرة أخرى فى عام 1932 مع التعلية الثانية للسد.
قرى تغرقها المياه، وسكان دون مأوى لا يلتفت إلى وجودهم أحد ومع قيام ثورة 23 يوليو عام 1952، وتغير الأوضاع السياسية والاجتماعية فى مصر، شعر النوبيون - على حد قولهم - بأن ثمة إصلاحاً يوشك أن يكون خصوصاً فى ظل شعارات رفعتها الثورة عن العدالة الاجتماعية لكل فئات المصريين. ولكن أحداً لم يلتفت إلى النوبيين فى الجنوب حتى كان بدء تنفيذ السد العالى فى عام 1960.
«إن الخير الذى سيعم على أبناء النوبة سيكون الخير الكثير، لأنه سيجمع شمل أبنائها على أسس صحيحة وبناء مجتمع قوى وسليم، لتزول الشكوى التى كنتم تشكون منها وهى الانعزال، ستكون عملية التهجير من هنا منظمة ومريحة ومركزة، ستنتقلون إلى قرى تشعرون فيها بالسعادة والحرية والرخاء»..
هكذا انطلقت كلمات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى أسوان عند وضع حجر الأساس للسد العالى فى يناير من عام 1960، كلمات براقة أحيت الأمل فى نفوس أهل النوبة فى أن الدولة ستعوضهم عما مضى وما هو آت، نعم سيتركون قراهم ومنازلهم على النيل من أجل عيون السد العالى، مشروع مصر القومى، ليذهبوا إلى قرى جديدة فى مناطق تطل هى الأخرى على النيل، تعمرها الدولة لهم بالمصانع لتستوعب اليد العاملة من أبناء النوبة، ومناطق لأصحاب الحرف،
و30 ألف فدان أعلنت الدولة عن تخصيصها لأهل النوبة الذين سيتم تهجيرهم من قراهم، وتصدر قوانين تؤكد إمكانية تحقيق الحلم لتنظيم هجرة النوبيين منها قانون 67 لسنة 1962، والخاص بنزع ملكية الأراضى التى تغمرها مياه السد العالى، وقانون وزارى رقم 106 لسنة 1962بشأن قواعد تعويض وتمليك وإسكان أهالى النوبة ثم القرار الوزارى 10745 لسنة 1962، لحصر الممتلكات وتقدير التعويضات ويبدأ التهجير لنحو 16861 أسرة فى العديد من القرى مثل الدكة، والسيالة، والمحرقة، ودهميت، وكلابشة، ومرواو، وجرف حسين، والسنقارى، وغيرها من المناطق حول بحيرة النوبة، التى تحول اسمها فيما بعد إلى بحيرة ناصر.
كانت خطة الحكومة - حسب بيان وزارة الشؤون الاجتماعية وقتها - أن يتم تمليك المساكن للنوبيين، مع مراعاة الخصوصية الثقافية للمعمار النوبى من حيث التصميم وألوان الطلاء، مع منح حق تشييد المبانى لمن يريد على نفقته الخاصة بعد التنسيق مع مهندسى وزارة الإسكان، وتخصيص 30 ألف فدان فى وادى خريت، ووادى شعيت، وتمليكها للنوبيين طبقاً لقوانين الإصلاح الزراعى.
«سد أسوان مشروع قومى كان ضرورة لمصر، والسد العالى مشروع قومى آخر لا يقل أهمية، ونحن النوبيين ألسنا مشروعاً قومياً بحاجة لمن يلتفت إلى مطالبنا؟».. هكذا يقول عم جمال محمد الذى يعيش الآن فى «أبوسمبل» وهى إحدى القرى التى استوعبت النوبيين بعد التهجير فى «كوم أمبو» التى تبعد نحو 50 كيلومتراً شمال مدينة أسوان، وتمتد على طول المنطقة فى شكل يقارب نصف الدائرة، يتخللها طريق ممهد للمواصلات يمتد بين أسوان وكوم أمبو، ويربط جميع القرى النوبية ببعضها البعض،
وأضاف عم جمال: «كانت حياتنا تسير بهدوء قبل تلك المشاريع، نعيش على شاطئ النيل، ونزرع أفضل الزراعات، ولا نكلف الدولة أى شىء، ولكن فجأة تبدل حالنا وبات مطلوباً منا الرحيل عن أراضينا، جئت هنا منذ عام 1963 على أمل ما وعدتنا به الحكومة، فلم أجد أنا وغيرى ما وعدونا به، من مصانع يعمل بها الشباب وأراض شاسعة نزرعها ونتملكها، حتى عندما قرروا اختيار الأرض المخصصة لبناء المساكن، لم يهتموا باختيار الأصلح، ووقع اختيارهم على أرض صحراوية رخوة، لم تتحمل المساكن التى أقاموها لنا فتشقق الكثير منها، هذا غير أنهم اكتفوا بتسكين 15 ألف نسمة فقط واضطر العدد الباقى إلى الإقامة فى مخيمات، أو لدى بعض ذويهم، بينما هاجرت نسبة غير قليلة إلى محافظات مصر المختلفة.
حتى الأراضى التى منحونا إياها لزراعتها كانت جبلية غير صالحة للزراعة، فكيف نزرع؟ ثم اتهمونا بعدم القدرة على استصلاح الأراضى وزراعتها، كيف ونحن كنا نعيش فى قرانا على الزراعة، واشتهرنا بصناعة السواقى التى كانت تروى ظمأ وعطش الأراضى المرتفعة عن سطح النيل والبعيدة عنها، بطريقة فنية بالغة الدقة والمهارة، تجعل الساقية قادرة على رفع المياه من أسفل إلى أعلى عبر ترس خشبى كبير يدور بفعل حركة الدوران من الثور، لم نكن نعرف ما يسمونه التكنولوجيا الحديثة، كنا نزرع بالمنجل، والفأس، والبرش، فكيف يقولون إننا لا نعرف الزراعة؟».
عندما تسير فى قرى التهجير، ترى المنازل الحكومية التى يرفضها النوبيون وقد تشققت جدرانها نتيجة رشح المياه، وانهار بعضها الآخر، تاركاً وراءه أنقاضاً لم يتم رفعها، ولا ترى أثراً لمدنية أو تطور، أو مظاهر نمو سكانى ينهض بأهل تلك القرى الحالمين بمصنع أو مشروع حكومى يوقف هجرة الأبناء الذين يشرعون فى الطيران بعيداً عن الوطن بمجرد الحصول على الشهادة، لندرة ما يمكنهم القيام به فى تلك القرى، التى بلغت نسبة البطالة فيها 40٪، من تعداد السكان هناك،
وهى حالة لا تختلف كثيراً عما يحدث فى مصر كلها ولكنها تزداد فى النوبة مع تراجع الإمكانات وضعف الاهتمام الاقتصادى من جانب الحكومة بتلك البقعة التى يمكنها أن تكون من أفضل مناطق الصناعة والاستثمار فى مصر، لا لتوافر المواد الخام بها، من حديد، ومحاجر، ومناجم، ومياه النيل وحسب، ولكن لتوافر الأيدى العاملة التى لا تحتاج إلا للتدريب.
كان من الممكن أن ترضى تلك القرى النوبيين، لو توافر بها فقط ما وعدوا به من مشروعات وأراض زراعية تستوعب الزيادة المطردة فى عدد السكان هناك، وبيوت لا يعانون تصدعها، وخدمات تعوضهم ما لديهم من مشاعر اغتراب، وبخاصة أن المنطقة تسمح بذلك فقط لو امتدت لها يد التعمير الحقيقى، من دون وعود براقة، تعمل كالمسكنات، ولا هدف منها سوى التهدئة.
لم تكن الهجرة إلى قرى التهجير والابتعاد عن أرض الأجداد، كما يسمونها، هى الوحيدة فى تاريخ النوبيين، الذين بدأوا ومنذ بناء خزان أسوان والتعليتين الأولى والثانية به، فى بدايات القرن الماضى، فى الهجرة للقاهرة والإسكندرية، وسيلة للتغلب على ما آل إليه الحال، إلا أنهم ولأمانتهم وصدقهم الشديد، اشتهروا بالعمل فى مهن حراسة العمارات الفخمة فى الأحياء الراقية، وكخدم فى قصور الباشوات والأمراء من أفراد العائلة المالكة.
ولذا تزخر الأفلام السينمائية القديمة بهؤلاء النوبيين، تتذكرهم ببشرتهم السمراء وأدبهم الجم، ولهجتهم المميزة، التى تؤنث كل شىء فى الحياة، وضحكاتهم الصافية التى لا تغيب، ووفائهم الذى ميز ما قاموا به من أدوار على الشاشة، فمن منا ينسى عم «إدريس» ذلك النوبى الوفى الذى أعاد لشادية حقها فى فيلم «أنا الماضى» وحماها من أطماع عمها فى إرثها، ومن منا ينسى أيضاً عم «إدريس» فى فيلم «لحن الخلود» وهو يدعو مديحة يسرى للحاق ب«الزيطة والزنبليطة فى الصالون»،
وعلى الرغم من تلك الظاهرة التى خلقت تلك الشخصية الدرامية فى السينما، فإن أهل النوبة يغضبهم أن يقتصر الالتفات إليهم وتذكر سيرتهم على صورة الخادم والبواب، مؤكدين أنهم لم يكونوا خدماً فقط ولكن السينما ركزت فقط على تلك الظاهرة، ونحن نؤكد لهم أننا نذكرهم بالحب شأنهم شأن كل المصريين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.