ساعات أقوم الصبح قلبى حزين اللى اشتريته انباع واللى لقيته ضاع راح اللى راح ماعادش فاضل كتير.. ■ ■ ■ لم تكن سن الشاعر، الذى صاغ هذا الكلام الصادر عن قلب موجوع، والذى يشبه شعر القدماء فى الولع بالوقوف على أطلال ديار الأحبة، وغنته ماجدة الرومى فى فيلم «عودة الابن الضال»، أكثر من 45 عاما حين صاغه.. فصلاح جاهين، المولود فى 1930 بالقاهرة – حى شبرا تحديدا – شاب عمره ولا ألف عام – كما وصف نفسه فى إحدى رباعياته الشهيرة – وحيد ولكن بين ضلوعه زحام.. كما أكمل الرباعية! الحب أحيانا يورث الشيخوخة المبكرة.. شيخوخة الجسد التى لا تلغى حيوية الروح.. وجاهين محب.. مولع.. مضروب بحب هذا الوطن، والحب له ضريبة، والقلب يدفع الثمن أحيانا.. وجاهين دفعه ليس فى السجون والمعتقلات كما دفعه شعراء ومثقفون كبار ووطنيون سواه.. الثمن الذى دفعه جاهين كان أفدح: قلبه! (اللى اشتريته انباع) هذا الوجه الطفولى البرىء يعلو جسدا سمينا يزيد هيئته براءة، كان يحمل قلبا أكثر وداعة ونقاء من قلب طفل..هذا الكيان الأخضر كورق الشجر الصغير، كان يسبق العقل فى حب مصر.. آمن بالمشروع الناصرى فى الستينيات، وجده المخرج الوحيد – فى رأيه – إلى مصر ناهضة فتية، ولأنه يؤمن بقلبه لا عقله فحسب، فقد جرى لقلبه ما جرى.. اكتئاب مزمن منذ 1967، جعل قلبه كل صباح حزينا.. فقد انكسر القلب، وظل القلم صلبا غير أن القلم يبكى، وقريحة الشعراء تدمى أحيانا! اشترى هذا المشروع بقلبه أيضا.. فباعه المشروع! ووجد ضالته فى الحلم القومى.. فضاعت منه ضالته، وصار عليه أن يحيا فوق اطلال حلمه الكبير. اعتبر جاهين نفسه مسؤولا عن الحلم المنكسر.. ألم يبشر به فى أغنياته الوطنية ويبلوره على صوت حليم وأم كلثوم وكل مطربى مصر فى الستينيات.. «صورة صورة صورة كلنا كده عايزين صورة..» الصورة المصرية الناهضة التى رأى حلمه فيها ينهار.. وظل قلبه ينزف على الانهيار، فدارى آلامه وطوى عليها قلبه الموجوع، كان يكبر فى العام الواحد ألف سنة مما تعدون. أعطى للوطن وهو موجوع القلب.. يكفيه (أحلف بسماها وبترابها)، دستور جاهين وعبدالحليم بعد هزيمة 1967، تلك الأغنية التى أقسما فيها على النصر والتى أصر حليم على أن يفتتح بها كل حفلاته بعد 1967.. ويكفيه فى 1956 أغنية (الست) «والله زمان يا سلاحى».. وفى 1973 انهمرت أشعاره، تقوى العزائم وتبشر بالنصر، رغم أن جاهين كان يعانى – لايزال – من الصورة التى تهشمت وتناثر زجاجها فى حشا قلبه! عاش يرسم الكاريكاتير ويكتب الشعر والأغانى ويكتب السيناريوهات.. ويمثل أحيانا.. تمرد على السلك القضائى، الذى كان يفترض أن يسلكه ليذهب سواحا فى بلاط صاحبة الجلالة من «صباح الخير» إلى «الأهرام».. وتمرد على الكاريكاتير، الذى كان يطلب منه أحيانا ألا يتجاوز فيه الخطوط الحمراء – وما أكثرها عند جاهين، خصوصا بعد أن انكسر حلمه!!- ليكتب للسينما.. فالحياة بقى لونها بمبى، ليسخر من تحولات كان يشم رائحتها فى مطلع السبعينيات، كانت تزيد اكتئابه حدة.. فسخر منه المثقفون واتهموه بأنه باع القضية! غير أن العاشق المفتون بالوطن لا يرد على الشتامين.. مضى يغنى للحب وللوطن وللجمال و«يا بنت يا أم المريلة كحلى يا وردة هلة وطلة م الكولة.. لو قلت عنك فى الغزل قولة ممنوع عليا ولا مسموح لى»..الفتاة المصرية الصغيرة الذاهبة إلى المدرسة صباحا، والتى لم تكن سوى صورة مصغرة من مصر، التى يريدها قوية فتية متعلمة، تصحو مبكرا وتنام مستذكرة دروسها، وقد وعتها جيدا! ولم يكن غريبا أن يرحل مقتولا بالاكتئاب المزمن وهو ابن 56 عاما فقط.. والصورة التى رسمها فى عينيه تتراءى له سرابا.