ستة وخمسون سنة، سنة وراء سنة، ننظر إلى مبنى قيادة الثورة على نيل القاهرة، ونفكر أن نصنع منه مقرًا للأرشيف المصرى، الخاص بثورة 23 يوليو بالرؤساء محمد نجيب، وعبدالناصر، وأنور السادات، بالاثنى عشر عضوًا فى مجلس قيادة الثورة، وبالصفين الثانى والثالث وبالأحداث التى مرت بها مصر فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، حتى رحل الرئيس السادات وأنهى برحيله الوجود الملموس لأعضاء مجلس قيادة الثورة على قمة الحياة السياسية فى مصر. هذا المبنى القديم القابع على نيل القاهرة فى مواجهة السفارة الإنجليزية رمز الاحتلال الإنجليزى لمصر فيما مضى، والذى شهد أحداثًا وقرارات خطيرة تستحق التأريخ، سجلتها اجتماعات مجلس قيادة الثورة حتى وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وخروج جنازته منه عام 1970. على مائدته الرئيسية وفى حجراته وردهاته، كان التفكير والتدبير، إلغاء الملكية، إقصاء محمد نجيب وإعلان الجمهورية، وتولى جمال عبدالناصر رئاسة مصر عام 1954، قرارات الإصلاح الزراعى، وحل الأحزاب السياسية، وإجراءات تمصير رأس المال الأجنبى ورحيل الأجانب، قرار تأميم قناة السويس ومواجهة آثار العدوان الثلاثى، الوحدة مع سوريا وإعلان الجمهورية العربية المتحدة، ثم تلقى قرار الانفصال السورى عن مصر بما شاب هذه التجربة من إنجازات وإخفاقات وأخطاء فى التنفيذ، شهدت غرف مجلس قيادة الثورة فى مصر مناقشات حركة التأميمات الكبرى، وإعلان الاشتراكية فى بداية الستينيات مشروع كتابة الميثاق، التدخل المصرى فى اليمن، بناء السد العالى، نكسة 1967، ووقائع حرب الاستنزاف، تكون مراكز القوى، ثم ضربها فى بداية عهد أنور السادات، فى عام 1975، صدرت بشأن هذا المبنى قرارات جمهورية تقتضى بتوثيق اجتماعات مجلس قيادة الثورة وبالتالى توثيق التاريخ المصرى منذ بداية الخمسينيات وحتى منتصف حكم السادات، وتكونت لجان وانعقدت اجتماعات، وصدرت تصريحات، ربما ضاع معظمها فى الهواء، ولم نشهد لها نتائج ملموسة، حتى انزوى المقر من جديد، وتراجع عنه الضوء وتعرضت محتوياته للسرقة وأصبحت واجهاته فقيرة وألوانها كالحة وأصبح مظهره يثير الشجن والحزن فى آن واحد، غرف محطمة طارت نوافذها، واجهات يكسوها التراب والإهمال، لافتات عن مشروع وهمى تتكرر إعلاناته لتحويل هذا المقر إلى متحف ومكتبة وقاعات إطلاع وشاشات سينما ومركز وثائقى مصور ومكتوب، لكنه، ومن فرط التكرار، يفقد المرء الثقة فى جدية التنفيذ. لذا فإنه عندما طالعتنا جريدة المصور فى عددها الأخير بتحقيق للكاتبة الصحفية أمانى عبدالحميد عن التفكير من جديد فى تحويل مقر قيادة الثورة على نيل الجزيرة إلى متحف بعد حصول وزارة الثقافة على ميزانية قدرها عشرون مليون جنيه كاعتمادات مالية مباشرة من رئاسة مجلس الوزراء، مع أن المطلوب هو أربعون مليون جنيه، فإن الأمل قد عاد من جديد رغم طول اليأس فى إنجاز هذا العمل الذى تأخر كثيرًا، لكن السؤال يبقى عن تقليص هذه الميزانية حتى تصل إلى نصف المطلوب فقط، مع العلم أن الرقم المُعلن وهو عشرون مليونًا، ربما يقل حاليًا عن ميزانية أى فيلم سينمائى مصرى متوسط من الذى تنتجه شركات خاصة، دون دعم من الدولة، وهو مبلغ صغير محدود بلغة أرقام هذه الأيام لإنجاز عمل كبير يستحق المزيد من الدعم والرعاية ويستطيع أن يرد تكلفته فى مدة وجيزة جدًا، إذا ما تحول إلى متحف يرتاده الناس والزوار من العرب والأجانب نظير رسم دخول معقول. لفت نظرى أيضًا هذه الفكرة المنشورة عن عزم وزارة الثقافة تحويل جزء من هذا المتحف إلى متحف شمع، يمثل زعماء الثورة وهم جالسون حول طاولة الاجتماعات، ليجسد - كما يقول التحقيق - اللحظات التاريخية التى غيرت وجه الحياة السياسية فى مصر، بالاستعانة بالخبرة الكورية وإنتاج مادة الشمع الخام، التى يمكنها تحمل الظروف المناخية الحارة فى مصر حتى لا تتعرض تماثيل الشمع للذوبان أو التكسير وهى فكرة جيدة أتخيل أن تلحق - لا أن تسبق - فكرة إعداد المبنى القديم العجوز، ذلك أن المبلغ الصغير الضئيل المتاح والمقدم من رئاسة مجلس الوزراء بعد سنوات طويلة من الانتظار قد ينفذ بالكامل كتكلفة لتماثيل الشمع، وأتخيل أيضًا أن صندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة بموارده الضخمة المتحققة من سياحة الآثار، يمكنه أن يدعم هذه الفكرة، خاصة أنها الأولى بالرعاية والإنفاق من مشروعات ومهرجانات أخرى كثيرة لا تبقى ولا تفيد، وحتى لا يتعثر هذا المشروع من جديد بعد سنوات وسنوات من الانتظار اليائس. [email protected]