فى أعقاب الكشف عن مقتل سوزان تميم، استضافت «شاشتنا القومية» رجل الأعمال والسياسى الشهير المتورط فى الجريمة، ومعه أحد «رجال الخير» من خلصائه، فى محاولة مكشوفة للغاية لغسل سمعته، وإعادة بيعه لنا ك «اقتصادى وطنى» و«وجه من وجوه العطاء والشرف». وبدا السيد المذيع مجتهداً فى محاولة «تلميع» الضيف، معدداً مزاياه ومناقبه، ومندهشاً من حجم «أعمال الخير» التى ينفذها ويعلنها، ومبتهجاً ومستبشراً ومستحسناً أفعال الرجل. وفى ذروة إعجاب المذيع بعطاء الضيف وسخائه، طلب إليه على الهواء (هوائنا) أن يقبل انضمامه إلى «قافلة الخير»، وأن يتيح له فرصة «المشاركة فى أحد أعماله النبيلة». حاولت مرة أن أحلل خطاب هذا المذيع، وأرصد أكثر العبارات تكراراً وتردداً فى كلامه؛ فوجدت عبارتين تترددان باستمرار؛ هما: «أنا رأيى»، و«أنا شخصياً»، وكثيراً ما ينهى حديثه مع أحد الضيوف قائلاً: «الآن فرغ دورى كمذيع، لكن دعنى أقول لك بشكل شخصى..». مذيع آخر يتحدث إلينا من خلف مكتبه وأمامه أربع قبعات يبدلها سراً وعلانية؛ واحدة لسياسى ونائب فى البرلمان، وثانية لمسؤول كروى رفيع، وثالثة لنجم رياضى سابق، ورابعة لزعيم مناطقى لا يشق له غبار. الرجل يستخدم «شاشاته» ويتلاعب بنا جميعاً، مفتئتاً على كل معيار أو منطق، فيشن حروبه، ويرهب أعداءه، ويقهر خصومه، ويبنى مصالحه، ويخلط بين أدواره حسب الطلب، ليضخم نفوذه ويبنى أمجاده على حسابنا. أما هذا المذيع، فقد تلبسته روح زعيم قومى وخطيب سياسى وناقد اجتماعى ومحتكر أوحد للحقيقة. يطل الرجل علينا عبر شاشة خليجية بكلام محفوظ ومعد سلفاً، يحرص على أن يجعله يبدو مرتجلاً. يجلد الجمهور كأى صاحب سلطة، أو اى سادن فى سجن. وفى غزوته الأخيرة، تخير سياسياً عربياً وحكم عليه بالخيانة ووصفه ب«المجرم»، واصطفى سياسياً آخر، واعتبره مخلّصاً وطنياً وأفضل من صلاح الدين. وليت الأمر انتهى عند هذا الحد، لكن الرجل شن هجومه على الأمة العربية كلها، ووصفها بما يلى نصاً: «أمة جاحدة ناكرة ذليلة تلفانة عدمانة أونطة... كانت أمة محمد، فصارت أمة مهند». وفيما يصر هذا الأخير على لعب دور الزعيم حامى الوطنية والقيم ومحتكر الحقيقة ومعلم الناس، يعتقد مذيعنا الرابع أنه نجم كوميدى خفيف الدم موهوب. ينقل الرجل أسوأ ما أتت به كوميديا «الفارس» من تكنيكات «قلب المواقف» و«التكرار» والإفيهات المأفونة، ويتحفنا بها عبر شاشته المشفرة. يخلط العام بالخاص، ويتجاوز حدود اللياقة، ويمارس الابتذال بدأب، ويبقى أهم ما يميزه محاولته لعب دور «الساذج» و«المندهش دائماً». أما هذا المذيع فنجم فوق العادة، ساعده خواء الصناعة وضيق أفقها على الارتقاء مرتقى صعباً، فبات علماً زاهراً ونجماً محورياً برأسمال محدود ومعطوب. ثمُل الرجل بأضواء الشهرة، فتحول قائداً سياسياً وسلطاناً للخير فى آن. وفى إحدى شطحاته، شن حرباً شعواء على وزير مأزوم مطالباً بإطاحته. بات الرجل أكثر من رئيس جمهورية، وأحكم من عالم، وأعدل من قاضٍ، فأصبح يعطى الأوامر، ويفرز الصح عن الخطأ، ويصدر الأحكام، ويعفو ويدين، ويمنع ويمنح، فيما هو جالس أمام الكاميرات. تقول الأكاديمية إن المذيع فى برامج الأحداث الجارية يجب أن يحافظ على الحياد، ببقائه على مسافة واحدة من جميع أطراف القصة التى يعالجها، وألا يخلط الرأى بالخبر، وألا يظن أبداً أنه الوحيد الذى يعلم الحقيقة، أو يمتلك القدرة على تصحيح الناس. وتؤكد المعايير المهنية أن المذيع يجب أن يحافظ على «التقديم الواقعى» طيلة برنامجه، وألا تظهر ذاته أبداً، أو ينم عما يكشف مواقفه أو آراءه أو توجهاته، وأن أفضل ما يمكن أن يفعله صحفى تليفزيونى أن يتخير أفضل القصص، ويشخص أطرافها تشخيصاً دقيقاً، ثم يختار أفضل المصادر المعبرة عن تلك الأطراف، قبل أن يتيح لها الفرص العادلة، لتعبر عن مواقفها تعبيراً حراً مسؤولاً فى إطار من النزاهة والتوازن. ثمة إشكال وخصومة يظهران، الإشكال يتعلق بما يحققه هؤلاء المذيعون من رواج ومجد فى وقت يناقضان فيه كل قيمة مهنية أو معيار احترافي، حيث يقدمون أداءً يصلح للتدريس فى معاهد الإعلام بوصفه «مجمل الأخطاء التى يمكن أن يقع فيها مذيع». أما الخصومة، فلا تنشأ مع الدولة التى تمتلك بعض محطات هؤلاء المذيعين؛ إذ أثبتت مراراً تبديدها لكل قيمة أو معيار، ولا للقائمين على تلك الأجهزة الإعلامية، الذين يستسلمون لسطوة «النجوم» وخطاياهم المهنية، ولا للزملاء الصحفيين الذين يعملون فى برامجهم، فيتخلون عن تقاليد العمل ويهملون السياسات والأدلة ويتساهلون فى سلب أدوارهم واستبعاد وجهات نظرهم، لكن الخصومة تنشأ مع الجمهور الذى صنع مجد هؤلاء وروّج لهم.كل «موزاً»، وابق «كوولاً»، وبع عقلك لأنصاف متعلمين وحواة، وتلق الإهانة والتجريح من مصابى جنون العظمة، واسمح للمنتهزين ببيع شاشتك وبيعك أنت شخصياً على الهواء، طالما كنت من معجبى السيد المذيع.