ينحاز الكاتب إلى الصيغة القديمة للقطاع العام شريطة أن يخضع للرقابة، ويرى أن العودة إليه باتت حتمية فى هذه الظروف، مؤكداً أن أعتى الدول الرأسمالية لم يختف لديها القطاع العام بالكامل، ويركز على أن العبرة ليست بشكل الملكية ولكن بنمط الإدارة المتبع، ويشير إلى أن تحسين إدارة هذه الأصول هو الأولى بالاعتبار، معتبراً أن المشروع «توريق للأصول القومية» هدفه الأول التسويق السياسى استرضاء للجماهير. طلعت علينا الصحف فجأة بالمشروع الذى تنوى الحكومة عرضه على مجلس الشعب بخصوص بيع أصول الدولة للمصريين. ولسنا ندرى بالضبط ما هى بواعث الحكومة لهذا التصرف المفاجئ الذى جاء فى ظروف غاية فى الصعوبة داخلياً وعالمياً، والتى تتلخص فى التحول الخشن الذى تمر به البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بالإضافة إلى الأزمة المالية العالمية. يتلخص المشروع - طبقاً لما نشر - فى برنامج لإدارة الأصول يشمل طرح نسبة من أسهم الشركات العامة الخاضعة لقانون 203 لسنة 1991 (شركات قطاع الأعمال العام وعددها 155) للبيع على المواطنين وتوزيع صكوك ملكية مجانية محدودة عليهم، مع احتفاظ الحكومة بحصة تتراوح بين ثلاث فئات 67٪ و51٪ و30٪ من أسهم هذه الشركات. الواقع أن هذا المشروع القومى يحمل وجهين: الأول (نقلاً عن أبحاث المشروع) يوسع قاعدة الملكية الشعبية ويخلق إحساساً بالانتماء والولاء لهذا البلد ويتفادى اللغط الذى صاحب برنامج الخصخصة فى السنوات الماضية فضلاً عن كونها آخر صرعة فى التعامل مع القطاع العام الذى شهد نحو خمسة تقلبات خلال نصف قرن ابتداء من المؤسسة الاقتصادية العامة إلى المؤسسات العامة ثم الشركات العامة ثم قطاع الأعمال العام، إن ما يعرضه هو حيلة ذكية لاسترضاء الشعب ومحاولة لتنشيط البورصة ونشر الوعى بالمشاركة فى سوق المال. ولكن كيف سيتم توزيع هذه الحصص على الناس؟ وما هى المعايير المرشدة للتمليك على فئات الشعب؟ فهذه مسألة بالغة التعقيد لابد من بحثها وبحث التداعيات الاقتصادية الناجمة عنها. أما الوجه الثانى فيعبر عن عدة انتقادات تشمل كون المشروع كله بمثابة منحة أو رشوة من الحكومة للشعب لأغراض خفية واسترضاء الرأى العام وشغل الناس بقضية لا طائل من ورائها لأنها لا تحدث تغييراً فى الواقع الاقتصادى. إن إحد أهم صعوبات هذا البرنامج كيفية الوصول بهذا التوريق إلى المستحقين من المواطنين بعيداً عن الدخلاء والغرباء والأولى أن نخصص بعض المبالغ للتشجيع والتفوق والابتكار فى أوساط المجتمع. كما أن هذه الشركات فى مجموعها تمثل ثروة قومية لمصر - رغم أوجه القصور فيها - فهى فى الواقع من صنع ملايين العاملين عبر سنوات ومن عرقهم وجهدهم، إنها بحق ملكية قومية للأمة تتوارثها الأجيال ولا يجوز التصرف فيها تحت أى مسمى. هذا ينطبق على السد العالى وقناة السويس وسيناء وسواحل مصر الطويلة والقطاعات الاستراتيجية والمناجم مثل السكر والحديد والأسمنت والمطارات والموانئ والنقل البحرى والطيران والجامعات ومراكز البحوث والبنوك الكبرى وقطاعات الرياضة والشباب والسياحة والمتاحف والآثار والمحميات الطبيعية. وهذه الملكية القومية لابد أن تحاط بسياج قانونى يحميها من التسرب إلى مستثمرين أفراد يقومون باحتكارها أو إلى مستثمرين أجانب يودون اختراق النظام الاقتصادى للبلاد. أضف إلى ذلك، أنه مع بيع البنوك التى تشارك الدولة فى سيادتها الاقتصادية بفعل تحرير القطاع المالى قد تتسرب سلطة الدولة فى إصدار النقود عن طريق منح الائتمان. وما درس الأزمة المالية العالمية الأمريكية ببعيد، حين انفرد رجال المصارف الفاسدون باتخاذ قرارات أشبه بالقرارات السيادية عن طريق اصطناع ما يسمى بالقروض الرديئة والمشتقات المالية التى انتهت بتوريق الأصول والإطاحة برشد القرار المصرفى. إن المشروع الجديد عن «إدارة أصول الدولة» وتوزيع حصص مجانية بموجب صكوك هو نوع من التوريق السياسى الذى ابتدعته الإدارة المصرية لتحويل الشركات العامة الخاسرة إلى حقوق قانونية وهمية لا تعبر عن حقائق القوة الاقتصادية المادية على الأرض، فى ظل استبعاد الثروة القومية التى تتمثل فى الموقع والمساحة الأرضية وما فى باطنها من موارد وما تمثله من قيمة تصل ل50٪ من قيمة الشركات. وتواضع حصة المواطن العادى مما يفقده أى قدرات تفاوضية لإدارتها. هكذا يصبح البرنامج أشبه ب«التوريق السياسى» الذى يحول الأصول القومية المادية إلى صكوك ورقية تحتمل أحد شيئين. إما أن تكون حقوق ملكية صحيحة يمكن تداولها. وبالتالى تركيزها واحتكارها فى يد الأغنياء حيث يبيعها السواد الأعظم من الناس المحتاجين، وإما أن تكون مجرد وثائق ورقية لا يعادلها رصيد إنتاجى بالتالى تستطيع الحكومة إلغاءها وإبطالها فى أى وقت. إن العودة إلى الملكية العامة أو القطاع العام الخاضع للرقابة بأى صيغة أصبحت حتمية، القطاع العام لم يختف فى أعتى الدول الرأسمالية. نذكر فى هذا المقام «مشروع وادى التنسى» فى الولاياتالمتحدةالأمريكية ورفض سيطرة الإمارات العربية المتحدة على الموانئ الأمريكية والبنوك التى تم الاستحواذ عليها فى كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا فى خضم الأزمة الراهنة. وتؤكد هنا القاعدة العلمية أن العبرة ليست بشكل الملكية وإنما بنمط الإدارة المتبع، وبالتالى فإن هناك بدائل لتطوير وتحديث هذه القطاعات وليس بيعها أو تصفيتها. تقنيات جديدة مثل عقود الإدارة والإدارة بالمشاركة، الحوكمة، ( الإدارة الرشيدة) الشفافية، المحاسبية، المسؤولية الاجتماعية، التدريب وتنمية الموارد البشرية، الجودة الشاملة وتحسين الأداء والإنتاجية. إن تحسين إدارة هذه الأصول هو الأولى بالاعتبار أكثر من شكل الملكية التى يجب أن يستقر فى وجدان الشعب صاحب المصلحة والسيادة مرتبطاً بالملكية القومية. معنى ذلك أن «الملكية القومية» هى الوريث الشرعى للقطاع العام بدلاً من «أصول الدولة» ذات المفهوم المحاسبى الضيق والذى يمكن أن يحولها إلى نوع من رأسمالية الدولة بحيث يتحكم فى الاقتصاد الوطنى مجموعة من البيروقراطيين.