أعلى خشبة المسرح القومى الذى كان قد تعرض لحريق منذ فترة وجيزة يضاف إلى سلسلة حرائق القاهرةالجديدة كانت هناك أبيات شعرية مرسومة بخط جميل يراها الناظر بوضوح تعلو المكان وتظلل هامات الممثلين وتبدو كإعلان للجميع، كانت الأبيات لشاعر النيل العظيم حافظ إبراهيم وتقول: «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، وكنت أعجب دائماً لهذه الأبيات فى هذا المكان بالذات الذى يقدم فناً وأدباً وموسيقى لكن أهل هذا المسرح صمموا على أن يذكروا الجميع بأن الفنون والآداب والموسيقى والرقص التعبيرى والكلمة والفكرة إن لم يتمحور كل ذلك حول مكارم الأخلاق فإن الناتج لن يكون إلا الضياع، تذهب الأخلاق وتذهب الأمم وتندثر وتضيع أو تسحق أو تتراجع وتتخلف أو حتى تموت، والسنون كفيلة بكل ذلك. تلح على ذهنى هذه الأبيات كثيراً الآن وأزداد فهما لمعنى وجودها فى بيت الفن العريق، المسرح القومى الذى أرهقته الحرائق المتكررة وأغرقته مياه الأمطار والباعة الجائلون وصراخ المواصلات العامة وقمامة وسط المدينة وتلوثها وإهمال الدولة لمبانيها العريقة وثروتها المعمارية والثقافية. تلح هذه الأبيات على عقلى وأنا أطالع صفحات الجرائد اليومية فتصطدم عينى بكل قبيح يصيب المجتمع المصرى فى مقتل، تتآكل معه الأخلاق والقيم حتى تكاد تضيع ونضيع معها، وسيرد متفائل أو كسول بأن ذلك يحدث فى كل بلاد الدنيا وأن مسألة تراجع الأخلاق فى المجتمع المصرى لم تصل بعد إلى حد الظاهرة وأن الانفتاح على العالم كان لابد أن يؤتى ثماره فى انجاهات عدة منها هذه الجرائم الغريبة التى تتكرر لدينا ومنها هذا السلوك المعيب فى الشارع والمدرسة وداخل الأسرة، وإذا كنا سنركن إلى هذا التفسير الذى يبدو منطقياً ومريحاً والذى سيتبعه بالقطع استسلام واستسهال لما نراه ونسمعه ونلمسه كل يوم فإنه من غير المجدى أن نفكر وندرس أو نحلل أو نبحث عن مخرج، علينا فقط أن نرفع الراية البيضاء لانهيار الأخلاق تمهيداً للانهيار العظيم وتمهيداً للذهاب كما يقول حافظ إبراهيم. وأتصور هذه الأبيات الشعرية التى كنا نحفظها فى المدارس: كيف لتلميذ اليوم أن يستوعب معناها وأن يقنع بجدواها ومدرس اللغة العربية الذى عليه أن يقدم هذه الأبيات ويؤصل معناها فى نفوس التلاميذ يقوم بالآتى - كما طالعتنا الصحف - يرغم تلميذة بالصف الثالث الابتدائى على أن تقف أعلى المقعد وأن تخلع البنطلون ليشاهدها الجميع ويسخروا منها، وأن هذا المدرس نفسه قد قام سابقاً بطرح تلميذة أخرى على الأرض ورفع ملابسها بعصا خشبية فى يده حتى يضحك عليها التلاميذ، هل هذا مدرس أم إنسان شاذ مريض يسعد بتعرية الفتيات الصغيرات وبامتهان كرامتهن والأسوأ ينقل هذه الأخلاق المنحطة إلى تلاميذ صغار يجدون فى سلوكه المعيب مادة للسخرية والانتصار على الضعيف؟ حارس أمن فى مدرسة ابتدائية يدخل وراء طفلة فى المرحلة الابتدائية لهتك عرضها فى دورة المياه بعدما أدمن تلك العملية الوضيعة مع أخريات، مدرسة شابة مختلة المشاعر والتصرفات دأبت على هتك أعراض أطفال الحضانة التى تعمل بها استغلالاً لعجزهم عن الفهم، أم لإحدى التلميذات تقتحم مدرسة ابنتها لتوسع زميلاتها ضرباً وتمزيقاً لملابسهن وكشف أجسادهن أمام الجميع، مدرسة لفتيات فى شبرا يجاورها بيت للأيتام من الذكور دأبوا على تسلق أسوار المدرسة لملاحقة التلميذات والتحرش بهن علانية.. حوادث كثيرة لا أخلاقية تحدث فى مدارسنا الآن تتراوح بين القتل وتكسير العظام وتحطيم الأسنان وتمزيق الملابس والتحرش وهتك الأعراض، فإن لم يكن بالمدارس الأمن والأمان والحماية والرعاية ومكارم الأخلاق فأين تكون؟ وأين يأمن الناس على أولادهم؟ هذا المنبع الأول لمعانى الشرف والكرامة والنزاهة والأمانة والحياء والأدب إذا ما اختل أو فسد فماذا ننتظر بعد ذلك فى الشارع والمكتب والبيت؟ حينما توقف دور المدرسة التعليمى ليستبدل بالدروس الخصوصية قلنا إن تلك مصيبة أما المصيبة الأعظم فهى انهيار دور المدرسة الأخلاقي والقيمى على يد بعض رعاة العملية التعليمية أنفسهم أو تحت أنظارهم، ولننتظر جيلاً هلت بشائره الآن يقود عمليات الفساد والتحرش والسرقة والإجرام على أعلى مستوى، ولنقرأ بيت الشعر العبقرى من جديد لنرى المستقبل. [email protected]