هل الكتابةُ فنٌّ؟ طبعا، لكن ليس كثيرا. هل القراءةُ فنٌّ؟ أعظمُ الفنون وأمتعُها. ثمة قارئٌ يقرأ النصَّ، أدبيا كان أو فلسفيا أو علميا، فلا ينالُ إلا معلومةً هنا وفكرةً هناك. تلك قراءةُ الموتى. وثمة قارئٌ يعرفُ كيف يجعلُ كلَّ كلمةٍ يقرأها مُلهِمةً وفاتحةَ دربٍ ومِفصلَ طريق. متعةً، لا عقليةً وروحيةً، بل فيزيقية أيضا. تلك قراءةُ الفنِّ، أو فنُّ القراءة. جرّبْ أن تقرأ وكأنك تتلصص على الكاتب وهو فى لحظة انتشاء عُليا. فالكاتبُ حين يكتبُ قصيدةً أو قصةً أو حتى أطروحةً فلسفية، لا شك يكون فى لحظة نشوة. وأنتَ حين تقرأه تحصدُ متعتيْن، لا واحدة. متعةُ إعمالِ العقل، ومتعةُ مراقبة إنسان يتمتع. كأنك تمسكُ مِشرطا وتُشرِّحُ مخَّه. لتتلصّصَ على خِزانته فتفتحَ أدراجها السريّةَ وتختلسَ النظرَ لأشيائه. أىّ متعة! أحيانا تفوقُ المتعةُ مقدرتَك على تحمّلها، فتترك الكتابَ وتنهض لتتمشى فى الغرفة حتى تتزن، ثم تعاود القراءة. لا شك الأمرُ يعتمد بالأساس على المادة المكتوبة وعلى كاتبها، فبعضُ إبداع كافكا وزوسكيند وبودلير وفوكنر، وحتى من الكلاسيكيين مثل بوشكين وتشيكوف، تجعلك تتوقف عدة مرات أثناء القراءة وتنظر إلى السقف حتى توقفَ سيلَ المتعة التى تضربك من هنا وهناك، وأنت غيرُ قادر على استيعابها بنفس سرعة ضربها لك! تتوقف. لتمنحَ نفسك زمنا يسمح لعقلك بامتصاص الجمال واستقطاره قطرةً قطرة. قصصُ إبراهيم أصلان، حتى القصيرة منها، لم أقدر أبدا على قراءتها دفعةً واحدة. لابد أن أنهض مرةً أو مرتين لألتقط أنفاسى دقائقَ وأمرّر الوقت فى أشياءَ تافهةٍ، مثل عمل كوب شاى أو النظر من الشرفة أو حتى تأمل كفّ يدى فى بلاهة. ليس صحيحا، كما يشاع، أن النصَّ الممتع يجعلك تركضُ فى القراءة وتلهثُ وراء الصفحات. ربما ينطبق هذا على النصِّ المثير، وليس الممتع. مثل الروايات البوليسية أو تلك التى تتلاحق أحداثُها فى تتابع وتراكم حتى تصل إلى ذروة النص، ثم النهاية. أنت تقرأ سريعا لأنك تريد أن تعرف ماذا سيفعل البطل، وليس لأن النصَّ جميلٌ فنيًّا. ذاك أن كثيرا من فرائد الأدب لا يحمل أى أحداث أو حبكة. رواياتُ فرجينيا وولف وجيمس جويس، ومسرحياتُ هارولد بنتر وصمويل بيكيت، وقصصُ أصلان لا تحملُ أحداثا، بل لقطاتٍ فريدةً ولحظاتٍ وجوديةً لا تتكرر. تحمل، كما يقول الشاعر، رائحةَ الوردةِ وليس الوردةَ، تحملُ ابتسامةَ الطفلِ، وليس الطفلَ، صوتَ خرير الماء، وليس الماء، تحمل الحُبَّ والحزنَ والفرح، وليس الحبيبَ والحزينَ والسعيد. أى تحملُ أثرَ الشىء وظلَّه، وليس الشيءَ نفسه. هى نصوصٌ لا تجعلك تفهم، فليس هذا وظيفةَ النص الأدبى، بل هى تزيدك حيرةً وسؤالا وهَمًّا! ذلك هو إعجازُها. النقصُ والكمال معا. الوجعُ واللذةُ معا؟ هل يجتمعان؟ نعم. شىء يشبه الضرسَ الموجوعَ الذى نضغط عليه ليزدادَ الوجعُ وتزداد اللذةُ بالوجع. يقول رولان بارت فى كتابه «لذة النص»: «إن فرنسيًّا من أصل اثنين لا يقرأ، وهذا يعنى أن نصف فرنسا محروم من لذة النص. لكن إحصاءات الأممالمتحدة تقول إن الفردَ العربىّ يقرأ «ربع صفحة» سنويا!!! يا إلهى! لماذا وكيف سمحنا لأنفسنا أن نضحى بلذّة كبرى اسمها «القراءة»؟ [email protected]