كتبت فى مقال سابق عن الملفات العديدة التى ورثها وزير الصحة الحالى عن وزراء سابقين ولم يعطها ما تستحقه من اهتمام ونظرة سياسية شاملة وعميقة، أدت إلى ما نحن فيه الآن من مشاكل هائلة فى القطاع الصحى أثرت بالسلب على الخدمة الطبية عموما، وعلى نظرة المجتمع والناس إلى مستوى ما يُقدم لهم من خدمات بالمنشآت الطبية المصرية، يستوى فى ذلك الفقراء الذين لا يملكون شيئا وعلى استعداد بالرضا بأى خدمة تُقدم لهم مهما كانت، والأغنياء وكبار المسؤولين الذين يُهرولون إلى الخارج فور شعورهم بأى شكوى أو عرض يتطلب مشورة طبية. لعل المواضيع التى طفت على السطح فى الآونة الأخيرة مثل موضوع مشروع العلاج على نفقة الدولة الفاسد وإساءة استغلاله، وموضوع حالة الخدمة بالهيئات والمستشفيات التابعة للتأمين الصحى، كما أظهره استطلاع للرأى أجراه مؤخرا مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، وموضوع حالة المستشفيات المصرية والجور من الشكوى الدائمة منها، يستوى فى ذلك التابع لوزارة الصحة أو المستشفيات الجامعية، وموضوع إعادة هيكلة المنشآت والجهات التابعة للوزارة بما يوقف هدر المال العام، والإنفاق السفيه بدون عائد يستحق، ثم موضوع العلاقة المُلتبسة بين الوزارة المركزية والمحافظين والمحليات.. أقول لعل كل تلك الموضوعات المهمة التى تُؤثر بلا شك فى مدى كفاءة الخدمة الصحية المُقدمة لأفراد الشعب المصرى يجمع بينها عامل مُشترك لا سبيل إلى إنكاره والتهرب منه، وهو أن الأطباء المصريين، وهم مقدمو الخدمة وحجر الزاوية وأساس الخدمة الطبية قبل الإنشاءات والتجهيزات وغيرها، فى حالة يُرثى لها تقترب من حالة الانهيار النفسى والمعنوى الكامل.. فهم غير مُتفرغين لعملهم، وغير مُتحمسين لما يقومون به من أعمال، وبالتالى فإنهم فى الحقيقة لا يبذلون من جهدهم فى العمل إلا أقل القليل، ولا يهتمون كثيرا بما يُسمى «مهارات الاتصال» بينهم وبين مرضاهم والعاملين معهم، وهم غير مستعدين للإنفاق من مواردهم المحدودة جدا على الدراسة والبحث وتنمية مهاراتهم ومعلوماتهم الطبية، وليسوا على استعداد لإضاعة وقتهم فى الحديث الإنسانى مع مرضاهم أو حتى رسم بسمة على وجوههم أثناء التعامل معهم، ولا يجدون غضاضة فى اقتناص أى فرصة للتزويغ من أماكن عملهم للحاق بمكان آخر يتكسبون منه أى مبلغ، مهما كان ضئيلا، يستطيعون معه توفير حد أدنى من العيش الكريم لهم ولأسرهم، ولا يُمانع الكثير منهم فى اللجوء إلى أى أسلوب مهما كان وضيعاً ولا يتفق مع لائحة آداب مهنة الطب لكسب المال، شىء شبيه بذلك يحدث أيضا فى المهن المساعدة لمهنة الطبيب وعلى رأسها مهنة التمريض الإنسانية العظيمة التى ربما تكون أكثر المهن تعرضا للظلم والافتراء فى دولتنا المُتخلفة، والتى بدون وجودها على درجة عالية من العلم والانضباط والأخلاق لا يُمكن الحديث بأى حال عن خدمة طبية مُتميزة. إن الحديث عن الأوضاع المادية للغالبية العظمى من الأطباء والمهن المساعدة، فى رأيى الخاص، أكبر بكثير مما يُحاول البعض تصويره على أنه مطالب فئوية وكادر خاص تُطالب به نقابة الأطباء وترفضه الحكومة أسوة بمهن أخرى لها نفس المطالب.. إنه ياسادة لُب القضية كلها وحجر الزاوية والأساس لتحسين الخدمة الطبية بمعناها الإنسانى العظيم، التى يبتغيها ويستحقها المواطنون، إن المقولة الشهيرة على ألسنة الموظفين المصريين فى دولتنا المنهوبة هى أنهم يعملون «على قد فلوسهم»، ولكن لا يمكن ولا ينبغى أن يكون هذا فى مجال صحة الإنسان التى هى أغلى ما يملك.. إن أى حكومة رشيدة يجب أن تنظر لهذا الأمر بمنظور مُختلف وإلا ستستمر الأمور من سيئ إلى أسوأ مهما أصدروا من قوانين وتعليمات واستعانوا بخبرات واستوردوا أجهزة وآلات وأقاموا المنشآت.. لابد أن يكون الهدف واضحا للجميع، وهو أن نصل إلى أن يقوم مُقدمو الخدمة الطبية من أطباء وتمريض ومعاونين بالتفرغ الكامل لعملهم فى مكان واحد من الثامنة صباحا حتى الخامسة مساءً، مع تعويضهم ماديا بأجر مُناسب للمعيشة الكريمة اللائقة حسب مُستوى المعيشة والأسعار فى زمننا هذا.. بغير هذا الفكر فإننا نُضيع وقتنا ونخدع أنفسنا ونعيش فى الوهم.. الطبيب المُتفرغ سيعطى الوقت المناسب للمريض للحديث والتفاعل الإنسانى معه وفحصه بالدقة الواجبة والمرور عليه يوميا لمتابعته والاستماع والاهتمام بشكواه.. الطبيب المُتفرغ سيجد الوقت لحضور المناقشات العلمية بمكان عمله والتعلم ممن هم أكثر منه خبرة والمشاركة فى إعداد أبحاث علمية يجب أن تخرج من الكيانات الطبية الكبيرة، والجلوس فى المكتبات لمتابعة الجديد فى مجاله فيتحسن مستواه باطراد.. الطبيب المُتفرغ سيجد الوقت لحضور المؤتمرات العلمية والسفر للاستزادة من العلم والخبرة.. إننى أتعجب من هؤلاء الذين يدرسون ويفكرون ويهرشون رؤوسهم سنوات طوالاً بحثاً عن حلول لجعل الشعب المصرى أكثر قبولا لما يُقدم له من خدمات طبية، ولا يضعون فى حساباتهم كم ستتكلف ميزانية أجور عادلة ولائقة للأطباء ومساعديهم حتى يقبلوا التفرغ الكامل! مرة واحدة حدث أن تولى مسؤولية التأمين الصحى أحد أساتذة الجراحة الأفاضل من جامعة عين شمس منذ أكثر من عشر سنوات، شعر خلال توليه المسؤولية– التى استمرت لفترة قصيرة– أن لُب القضية كلها هو الطبيب ومدى قناعته بما يؤديه، واقترح حينذاك عمل تعاقدات بين هيئة التأمين الصحى ومن يرغب فى العمل مُتفرغا بها، ووضع لذلك مُقابلا ماديا مُجزيا بأسعار زمانه، مع لائحة صارمة تضمن انضباط المتعاقدين، وبدا فى ذلك الوقت شعاع من أمل فى أن هناك من يعى ويفهم، وباٍلفعل بدأت الأمور فى التحسن، ولكن– كما هى العادة فى الدولة الفاشلة– تمت تنحيته لأسباب شخصية بينه وبين وزير جديد للصحة وضاعت الفكرة وانطفأ شعاع الأمل! يا سادة وفروا مجهوداتكم ومصروفاتكم وتصريحاتكم.. لن يتغير شىء فى التأمين الصحى ولا غيره مهما فعلتم.