أنا رجل أكل عيشى من الخيال، ولذلك سأشطح فى خيالى، ولا يهمنى. دونا عن كل كتاب مصر عَظُم شأنهم أو هَزُل، سيقرأ الرئيس مبارك ما أكتبه اليوم بعناية فائقة، بعد أن ترفعه له الأجهزة المختصة مشفوعا بتقارير موثقة تؤكد أن هذا الكاتب ليس لديه ارتباطات مشبوهة، وليس ممولا من أحد، وأن الله فتح عليه فصار بيته مفتوحا بفضل الشعب المصرى، وأنه لم يكتب سطرا فى حياته كلها يؤيد فيه الرئيس مبارك، ولن يكتب فى حياته القادمة بإذن الله سطرا يؤيد أى حاكم أيا كان، سيتأثر الرئيس مبارك بكل هذا لسبب لا يعلمه إلا الله، وسيطلب على الفور من الأجهزة المختصة أن تتحقق من صدق ما كتبته من خلال تقارير موثقة مأخوذة بذمة وضمير من قلب الشارع المصرى الشقيان المرهق المكدود والمنتظر لأى خبر حلو أو تغيير يبل الريق. بكل المقدسات أستحلف الرئيس مبارك أن يتوقف طويلا ومليا عند غرام المصريين الجامح بالبحث عن خليفة له قبل الهنا بسنة، يستطيع بعض المحيطين بالرئيس إما عن اقتناع عماده محبتهم له، أو عن قلة ضمير دافعها بقاء الوضع على ما هو عليه، أن يصوروا الأمر برمته للرئيس على أنه مجرد هوس ناس فاضية، أو قلة ذوق من المعارضين غلاظ الأكباد الناسين لأفضاله على البلاد، أو رغبة فى البيع من صحف تدرك حلاوة اللعبة وقابليتها للتغليف بغلاف الهم العام، أو فراغ شباب هرب من تصلب شرايين الواقع إلى حيوية الواقع الافتراضى فى منتديات الإنترنت وجروبات الفيس بوك. يستطيع الرئيس أن يصدق ذلك إذا أراد، لكنه يستطيع أيضا أن يستمع إلى وجهات نظر أخرى ترى فيما يحدث الآن إعلانا صادقا صريحا وغير مدفوع الأجر عن عطش المصريين إلى التغيير، الذى هو سُنة الله فى الكون، وحاشا لسُنة الله أن تكون موجهة ضد أى شخص أيا كان رأينا فيه أو رأيه هو فى نفسه. يستطيع الرئيس أن يعتبر فرحة المصريين بطرح (قد يكون وهميا) لأسماء مثل عمر سليمان وعمرو موسى والدكتور محمد البرادعى والدكتور أحمد زويل، أيا كان رأينا فى أحقية كل منهم بالمنصب، دليلا على أن كل محاولات ملء دماغ المصريين بصلاحية جمال مبارك للرئاسة لم تنجح فى جعله يملأ أعينهم، وأن لديهم عشما كبيرا فى أن حب الرئيس لمصر أقوى بالتأكيد من حبه لابنه، وأن خوفه على مستقبل البلاد أقوى بالتأكيد من أمله فى ضمان مستقبل ابنه. لا أدرى هل يحب الرئيس مبارك كتب التاريخ أم لا، أنا شخصيا أعشقها، ولذلك أعتقد أن الرئيس مبارك ولو حتى من باب الفضول الإنسانى الغريزى يشغله أحيانا التفكير فى الموقع الذى سيحتله فى كتب التاريخ. يظل الحاكم فى حياته ملء السمع والبصر، لكن كتب التاريخ تترجم حكمه بعد مرور السنين إلى صفحات عريضة حافلة أو أسطر عابرة، يستطيع الرئيس أن يعود إلى مجلدات (النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة) للمؤرخ العظيم ابن تَغَرّى بردى، ليرى كيف يُختزل فى أسطر معدودات تاريخ ملوك ظلوا عشرات السنين على عرش مصر ولم يخدمهم التاريخ بما هو أكثر من ذكر أسمائهم. لا يمكن أن يدعى أحد منا أنه يعرف قطعا ما الذى سيسجله التاريخ للرئيس مبارك وعليه، ولن يكون عادلا أبدا أن يحاول أحدنا ذلك الآن، لكننى أعتقد أن الرئيس مازال يمتلك فرصة سانحة يتمناها الحكام الذين سبقوه إلى كتب التاريخ وفاتتهم الفرصة للأبد، لا أعنى فرصة أن يصبح فقط أول رئيس سابق باختياره فى تاريخ مصر، فالحكاية ليست بهذه السطحية التى يصورها بعض أراجوزات المعارضة، فلو حكم مصر اليوم صحابى جليل فى ظل هذا النظام السياسى الذى يكرس حكم الفرد للأبد لضج الناس من فساده وظلمه بعد أشهر من حكمه. الفرصة السانحة التى أقصدها هى أن يجرى الرئيس مبارك تعديلا دستوريا حقيقيا يقصر مدة الرئاسة على فترتين رئاسيتين لا ثالث لهما ولا سبيل لزيادتهما بأى شكل وتحت أى ظرف، ويضمن الإشراف القضائى الكامل على الانتخابات، ويعطى المصريين حقهم الإنسانى الطبيعى، حق تقرير المصير. أنا من المؤمنين بدور الفرد فى التاريخ ربما أكثر من اللازم، وأعرف شواهد كثيرة لتحولات مفاجئة لحكام، غيرت مجرى التاريخ، لكننى لا ألزم أحدا بأحلامى أو حتى بأضغاث أحلامى. باختصار لا أعتقد أن خلاصنا ستحققه الحرية الشكلية التى تسعد حوالى مائة شخص ما بين كاتب ومذيع ومحترف سياسة وترضى غرورهم وتحقق مصالحهم، بينما يستمر شقاء شعب بأكمله، خلاصنا لن يتحقق بتحويل مصر إلى حقل تجارب يحولها إلى لبنان أو عراق لا سمح الله، أو بالجرى وراء قفزات بهلوانات المعارضة الذين غرروا ببعض مخلصينا ليرصوهم فى مشهد مهين أمام كاميرات الفضائيات التى عملت عليهم شوية شغل حلوين لن يصل صداه إلى الناس أبدا لأن الناس لا تأكل من الأونطة، خلاصنا لن يتحقق بالمشاركة فى خداع الناس بأن الأمل يمكن أن يتجسد فى شخص وليس فى طريق. أنا رجل آكل عيشى من الخيال، لذلك سأشطح فى خيالى ولا يهمنى. ربما قرأ الرئيس مبارك كلامى، وربما تأثر به، وربما قرر أن يفعل ما يجعل الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويضمن له على الأقل مجلدا كاملا فى كتب التاريخ القادمة، وربما كان كل ما كتبته الآن ليس سوى عشم إبليس فى الجنة، لكن ألست معى فى أن الله حَرّم على إبليس دخول الجنة، لكنه سبحانه لم يُحَرِّم العشم. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]