لا أغضب عندما أجد من يسألنى شفاهة أو كتابة: عندما كتبت كذا أو كذا هل كنت جادا أم كنت تسخر؟، فقد رأيت أساتذة لى أشد منى فصاحة وأبرع منى حرفة وهم يصادفون من يسألهم ذلك السؤال، كما أننى لا أمتلك فصاحتهم ولا براعتهم، فأنا لا أمتلك ما كانوا يمتلكونه من جرأة فى الرد على سؤال مثل هذا، ولذلك أكتفى بالرد بجملة واحدة «حضرتك شايف إيه؟»، وعادة يكون رد من أقول له ذلك «حضرتك بتهزر دلوقتى؟»، وعندها أزداد غتاتة وأقول له «حضرتك شايف إيه؟»، وعادة يتركنى السائل ويمشى وهو يغمغم بألفاظ لا أجزم أنها غير لائقة، لكن أجزم أنها تنم عن الغضب. فى مواقف كهذه من السهل أن تتهم الكاتب لأنه لم يوضح قصده للقارئ، لكن أنا شخصيا أتهم مناهج التعليم لأنها على مدى عقود عديدة فعلت الفاحشة فى قدرة الناس على التذوق، لذلك أصبحنا يوما بعد يوم نعانى تصحر الخيال فى شعب هو الذى ابتكر الخيال، وبعد أن كانت خفة الظل أمرا يرفع من قيمة الإنسان لدينا، صارت الجهامة بيننا دليلا على الأهمية، والنطاعة دليلا على علو المكانة، وصار مما يرفع ذكر الإنسان بين قومه وصفك له بأن «قلبه ميت»، وأصبح مألوفا أن نطلق على من تستحيل قراءة مقالاتهم من فرط غتاتتها لقب «مفكر»، مع أن أهم مفكرى العالم اكتسبوا مكانتهم من براعتهم فى توصيل أفكارهم للناس. هل أنا الآن جاد أم أسخر؟ لن أغضب عندما تسألنى الآن سؤالا كهذا، لان إجابتى على سؤالك تتوقف على مفهومك الشخصى للجد والهزل، وهو أمر ليس بالهين لو علمت، يكفى أن الكاتب العربى العظيم الجاحظ كتب فى رسائله رسالة بديعة عن «الهزل والجد»، أتمنى أن تسنح الفرصة والمساحة لكى نتصفح بعض أوراقها سوية. ذات يوم غير بعيد ذهبت بذلك المجلد الذى يحتوى رسالة عمنا الجاحظ إلى تحقيق أمام النيابة بعد مقال كتبته عن أحد كبار الساسة، لكننى فى آخر لحظة تراجعت عن فكرة تقديم الكتاب إلى المحقق، لأننى اكتشفت وأنا «أفرّ» المجلد فى انتظار بدء التحقيق أننى كتبت على هوامشه ما يعاقب عليه القانون فعلا وقطعا وفورا، فاكتفيت بأن أقدم للمحقق كتابا لأستاذ الصحافة الجليل الدكتور عبداللطيف حمزة عن فن الهجاء والسخرية، بالإضافة إلى مجموعة من كتب عمى وأستاذى محمود السعدنى لأنه كان يومها يعانى مرضا يمنعه من حضور التحقيق لو دُعى إليه، ربما لذلك لم أقدم للمحقق مجموعة من كتب أستاذنا أحمد رجب لكى لا يتم استدعاؤه إلى التحقيق فأخسر صداقتى به. يومها استبد بى الحماس وأنا أرد على أسئلة النيابة، وفى معرض الإجابة على أحد الأسئلة التى تبدأ عادة بجملة «وماذا كنت تقصد بقولك..»، قلت إننى أتمنى أن يقوم أحد أساتذة الصحافة فى كليات وأقسام الإعلام التى نمت وترعرعت فى طول البلاد وعرضها بعمل دراسة علمية عن فن الكتابة الساخرة وأدواته وتطبيقاته وتاريخه سواء فى مصر التى تملك تاريخا حافلا فيه أو فى دول العالم التى منحت لهذا النوع من الكتابة حصانة خاصة جعلته يزدهر فى أمان ليصبح واحدا من أبرز فنون الكتابة التى تدرك الدول المتقدمة أهميتها وضرورتها للتقدم، توقفت عن شرح فكرتى بعد أن وجدت الكاتب ينظر إلى رئيس النيابة نظرة استغراب وتساؤل معناها «أكتب الكلام ده ولا إيه سيادتك»، فنظر رئيس النيابة إليه نظرة ذات مغزى، ثم قال لى بحسم «الكلام ده مالوش دعوة بنص التحقيق.. بس ممكن تكتبه فى مقال تشرح فيه فكرتك لأساتذة الإعلام. سين: ماذا كنت تقصد بقولك..». مرت سنون على تلك الواقعة، ومع ذلك لم أكتب تلك الفكرة فى مقال أوجهه لأساتذة الإعلام، ربما لأن الشيطان وسوس لى بأن أطمع فيها لنفسى، وكلما جاءتنى قضية تأخذنى إلى محكمة أو بلاغ يستحضرنى إلى نيابة، كنت أقول لنفسى: ألم يكن مفيدا لو كانت دراسة علمية عن الكتابة الساخرة موجودة معى فى التحقيق أو أمام المحكمة؟، لذلك قررت أخيرا أن أعمل بنصيحة السيد رئيس النيابة، وها أنا ذا أكتب الفكرة على أمل أن يعجب بها أحد باحثى كليات الإعلام البارعين ويشرع فى تحويلها إلى دراسة علمية، وكل ما أطمعه أن يهدينى تلك الدراسة بعد انتهائه منها، لا أقصد أن يكتب إهداء لى فى مقدمة دراسته، بل أطمع فقط أن يهدينى أكثر من نسخة منها لزوم النيابات والمحاكم والإجابة على سؤال «إنت بتتكلم جد ولا بتهزر؟».