لست مهووساً بنظرية المؤامرة، لكننى أعتقد بكونها حقيقة واقعة، لم أعد أخجل من إعلان ذلك بعد أن شاهدت المفكر الكبير الدكتور جلال أمين يشرح على الملأ أسباب إيمانه بنظرية المؤامرة فى كلمة بديعة ألقاها مرة فى احتفال ثقافى بمكتبة ديوان، ولا أدرى لماذا لم يقم بنشرها بعد ذلك، وأتمنى أن تبادر «المصرى اليوم» إلى طلبها منه لنشرها لتعم الفائدة. المشكلة أن البعض يزودها حبتين ليصل فى اقتناعه بنظرية المؤامرة إلى حد مثير للأسى، خذ عندك ما يثار وبقوة على شبكة الإنترنت (التى ابتلتنا بثقافة «الفورورد») حول كون أنفلونزا الخنازير خدعة عالمية من اختراع شركات الأدوية الكبرى، وهو أمر كنت سأصدقه لو كان خطر أنفلونزا الخنازير مقصوراً علينا نحن أهل الدول المستهلكة المغيبة عن الوعى، لكن كونه خطراً محدقاً بالبشرية كلها غنيها وفقيرها يجعلنى مطمئناً بنسبة كبيرة إلى أن آليات الديمقراطية فى المجتمع الغربى تُصَعب إمكانية أن يصل التآمر إلى هذا الدرك من القذارة، لأن انكشافه يوما ما سيعرض الذين تورطوا فيه للمساءلة التى لا ترحم. فى العادة أستخدم عن غير اقتناع تعبير «وأتمنى أن أكون مخطئاً فى اعتقادى»، لكننى هذه المرة أتمنى من كل قلبى أن أكون محقاً فى اعتقادى ويكون متبنو نظرية المؤامرة على خطأ، فآخر مرة صدق الناس فيها نظرية المؤامرة فيما يتعلق بالفيروسات والأوبئة كان الثمن باهظاً، 400 ألف روح أزهقت على الأقل فى جنوب أفريقيا، بعد أن نتع رئيسها السابق تابو ميبيكى تصريحاً بأنه لا يعتقد أن مرض الإيدز له علاقة بفيروس (إتش. إى. فى)، وأن شركات الأدوية الأجنبية هى التى تروج لهذا الاعتقاد، ثم ثبت خطأ تصريحه بعد فوات الأوان. ومع أننى أربأ بك أن تعتمد فى صحتك على رسائل الفورورد التآمرية، إلا أننى سأشاطرك الرأى تماماً لو كنت ممن يعتقدون بأن لإسرائيل يداً خفية فى جريمة تشويه سمعة الفنان المصرى الكبير نور الشريف، وإن كان قد تورط فيها صحفيون من أبناء جلدتنا بسذاجة أو بانعدام ضمير، لا تفرق الحكاية الآن، فالذى حدث أن فناناً كبيراً قرر أن يقدم عملاً فنياً يمكن أن نختلف أو نتفق معه، لكنه أغضب إسرائيل التى تقدمت باحتجاج رسمى ضد العمل، فقررت أن تؤدبه بطريقة أو بأخرى لكى لا يفكر هو أو غيره فى التعرض لها من قريب أو من بعيد. سيكون موقف بعض كتابنا من هواة التطبيع صعبا الآن لو أعلنوا رفضهم لنظرية المؤامرة، خاصة وقد هللوا لها بعد فشل وزير الثقافة فى الوصول إلى مقعد اليونسكو، عن نفسى أصدق أن إسرائيل تآمرت على فاروق حسنى ليس خوفاً منه، فالرجل لم يقصر فى طمأنتها والتزلف لها، لكن لأن طبيعة هذا الكيان التى نشأت على اغتصاب الحقوق والغدر والخيانة لا تقبل بأقل من الاحتلال الكامل، ولا ترضى بأن يكون هناك أصوات معارضة لها تقلق راحتها، جميعنا نذكر الإشاعات التى لاحقت الفنان الكبير محمد صبحى بعد عرض مسلسله (فارس بلا جواد)، والذى مهما اختلفنا حوله، لا يمكن إنكار أن إسرائيل استشاطت غضباً منه رسمياً وإعلامياً. أخطر ما فى المؤامرة أنها لا تأتى من فراغ، بل تلعب على عناصر موجودة فى الواقع وتقوم باستغلالها، وفى حالة الجريمة التى تعرض لها نور الشريف، أهم عناصر المؤامرة هو استغلال حالة كراهية الفن والفنانين التى أفرزتها هجمات التطرف التى تواصل اجتياح المجتمع المصرى منذ منتصف السبعينيات والتى نجحت فى إقناع شريحة واسعة من المصريين بتحريم الفنون وتأثيم الفنانين، والأخطر أنها نجحت فى إقناع الشريحة الأوسع التى برغم عدم توقفها عن متابعة الفنون واستهلاك أخبار الفنانين، بأن الفن والفنانين لا يستحقون التقدير الذى يحظون به فى المجتمعات المتقدمة، بالطبع لا يمكن إبراء الوسط الفنى بجميع قطاعاته من المساهمة أحياناً فى تكريس هذه المشاعر، ولا يمكن إغفال أن أجهزة الإعلام الرسمية تقوم بغشومية باستفزاز هذه المشاعر، كأن تفرد برنامجاً يومياً طيلة شهر رمضان للنبش التافه فى النصف السفلى للفنانين، مع أنه كان يمكن أن تقدم الدولة دعمها لبرنامج تقدمه سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة أو المخرج العملاق محمد خان أو عميد الأدب التليفزيونى أسامة أنور عكاشة وغيرهم من رموز الفن المشرقة، أغلب الظن أن العبقرى الذى وقف وراء ذلك البرنامج وغيره من برامج الفضائح كان يظن أنه يوجه ضربة قاضية للتطرف، وهو لا يدرك لقصور خلقى فى قدرته على الفهم أنه أعطى سلاحاً ناجعاً للتطرف فى حربه مع الفن، ليست هذه بالمناسبة دعوة لتغليب الأحكام الأخلاقية على الفن والفنانين، فأنا آخر من يمكن أن يدعو إلى هذا، ما إنت عارف، لكن إطلاق الحرية الفنية لا يتعارض أبدا مع اختيار الفن الذى تنحاز له أجهزة الإعلام الرسمية التى يفترض بها أن تكون قوة ضاربة فى مواجهة هجمات التطرف والتخلف. سينصف القضاء المصرى فنان مصر الكبير نور الشريف، وسيقتص الله لمن ظلموه هو وزملاءه وخاضوا فى أعراضهم، لكن تبقى فى النفس غصة، ونحن نرى كيف تستشرى فى مجتمعنا تلك الحالة المزرية التى نهدم فيها بأيدينا صروحاً فنية شامخة يتمناها غيرنا. كم نور الشريف لدينا لكى نسىء إليه بهذا الشكل الحقير، لا أتصور أن من فكر فى نشر ذلك الهراء (أو ساهم فى شيوعه على أساس أن لحوم الفنانين مباحة)، قد تذكر ولو للحظات قائمة الأعمال الفنية التى قدمها نور الشريف فى السينما والتليفزيون والمسرح، المؤسف أننى أغالب بداخلى خاطراً الآن، أنه لو تذكر تلك القائمة أو ذكّره أحد بها لما فرقت معه ببصلة، ولرد رداً استفزازياً من نوعية «وهو عمل إيه يعنى.. خد نوبل.. استفادت مصر إيه يعنى من الفن أساساً»، وما إلى ذلك من الجمل التى أتمنى أن نواجه أنفسنا بحقيقة أنها أصبحت جزءاً من تفكيرنا الشعبى الذى غيبه التطرف الدينى والتعليم المخصى وتحول الثقافة إلى أشكال ومبان ومناظر، واحتقار غالبية المثقفين للذائقة الشعبية فى الفن ومحاولتهم تبنى ودعم نماذج فنية مستوردة وغير حقيقية و«مش شبهنا». سأعمل لى قفلة على الفور، أحكى لك فيها عن ذلك الطقس الذى يعرفه أبناء الأحياء الشعبية جيداً، عندما يقوم بعض المهاويس الذين فاض بهم الكيل من عناء الحياة، فيقررون أن يضعوا حداً لمعاناتهم معها، ويبدأون بتناول ما يعرف ببرشام الصراصير المغيب للوعى، ليتجهوا بعدها إلى أقرب ميدان عام أو إلى شريط التروماى، ويشرعوا فى خلع ملابسهم وتشريح أنفسهم بالموس أمام الناس فى طقس مرعب يشعرون فيه وحدهم بالتلذذ وتحقيق الذات. أزعم أننا مارسنا طويلاً ومن زمان وفى كل العصور الإساءة إلى فنانينا وظلمهم ومعاملتهم بقسوة ووحشية، ثم ونحن نواصل التدهور، نسينا أننا لم نحقق إنجازات جماعية كثيرة فى تاريخنا، بل كان إنجازنا الأهم والأكثر تفرداً هو إنجاب العبقريات فى الأدب والفن والثقافة، ومع ذلك لم نكتف بالتطفيش الفردى لمبدعينا كل على حدة وفى مجال عمله، بل قررنا أخيراً أن نقوم بعملية تناول برشام صراصير جماعى، ونبدأ بتشريح أجمل ما فينا على الملأ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]