هل تحدث المؤامرة فقط عندما نخسر؟ فكما هو معروف، فى سياق معركة فاروق حسنى فى اليونسكو، أنه كانت هناك صفقة بين الحكومة المصرية وحكومة نتنياهو، تخلت من خلالها الأخيرة عن موقفها المعارض لترشيح الوزير المصرى، كما كتب أكثر من معلق فى الصحافة الفرنسية مثلا. ألا تنصب مثل هذه الصفقات تحت بند المؤامرة؟ وهل كان سيتكلم الإعلام الرسمى المصرى، فى حالة فوز حسنى، عن المؤامرة؟ لكن افتعال الصراعات مع الخارج هو أضمن الطرق لل"تكميخ" والتمويه على الفشل. وفى حالة مصر، يسهّل هذا الفعل تراث ثري، طالما تخلل نظام التعليم والإعلام عندنا. فى البداية كان هذا التراث، المدين للاستعمار والهيمنة الغربية، مؤسس على دعاوى وشكاوى عقلانية نسبيا، فكما أشار إدوارد سعيد، بالذات فى كتابه عن "الاستشراق"، إلى أن النظرة المتعالية التى سادت رؤية الغرب لنا فى الماضى، والميراث الثقافى الذى جاء معها، قد ارتبطا فعلا بالاستعمار والسيطرة الغربية. لكن العالم قد تغير، وكثير من الدول المستعمرة سابقا، مثل الهند، التى فاقت فيها حقبة وقسوة الاستعمار ما حدث عندنا بمراحل، نجحت فى التقدم سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعلميا. مع ذلك، بقى الإعلام المصرى فى نفس الخانة، وكأن الهند ما زال يحكمها "نهرو"، وكأن "ماو" ما زال كامنا فى بكين، و"شى جيفارا" "مقاوما" فى أمريكا اللاتينية.. ويشرف على مثل هذه الحملات أناس قد درسوا وعملوا فى أماكن مثل لندن وباريس وروما، ويعتبرونها قبلتهم الأولى، ويزورونها تكراريا ويتباهون بمعرفتها وحبها. لكن عندما يعودون لمصر، نجدهم لا يتكلمون فقط عن الحرب مع الاستعمار والهيمنة كما تكلم عبد الناصر، إنما عن حرب عالمية ضد الإسلام أيضا. فإذا كان التاريخ يعيد نفسه، حسب مقولة "ماركس" الشهيرة، أول مرة كمأساة تراجيدية والثانية ككوميديا رخيصة، فاستخدام التراث الناصرى فى إطار مجرد من أى أيديولوجية سياسية جادة، وفى خارج سياقه الزمنى، والكلام عن الحرب الصليبية ضد الإسلام من قبل أشخاص لا يعيشون على الإطلاق فى سياق عملى يتناسق مع تلك الشعارات، يؤكد صحة تلك المقولة.. وكل ما أرجوه أن الموضوع "ما يقلبش نكد" فى النهاية- لأن هذا الوضع يعكس، بكل بساطة، نظرة نخبوية غير مسؤولة، نظرة منفعية وميثولوجية فى نفس الوقت، تستخدم أساطير الصراع الحضارى الأزلى فى سبيل تكريس المنفعة الذاتية. أعتقد أنه ليس من الغريب أننا نجحنا فى استقطاب نتنياهو فى خانة الحياد فى معركة اليونسكو، بينما فشلنا فى فعل نفس الشىء مع معظم دول الغرب. لأن، كما شرحت فى عدة مقالات وقت تشكيلها، حكومة نتنياهو اليمينية تسير هى الأخرى مثلنا فى حركة زمنية مغلقة، بينما يتطور العالم ويتحرك نحو الأمام. نحن نتكلم عن الصراع مع الاستعمار والحرب العالمية ضد الإسلام، والكثير فى اليمين الإسرائيلى يتكلم عن الحق التارتيخى المسلوب للشعب اليهودى فى ال"ياهودا والسامرة"، الذى لا يريد العالم الاعتراف به لأنه فى حرب أزلية مع اليهود. وليس من الغريب أن يكون أوباما، الذى اصطدم مع إدارة نتنياهو منذ اليوم الأول، من أشد الذين عارضوا ترشيح حسنى، لأن أوباما نموذج لهذا التحرك الأمامى، فهو يمثل ما سميته من قبل بأمريكا الجديدة، أو أمريكا المدنية، المتمركزة حول المدن الكبيرة متعددة الجنسيات والثقافات، المنفتحة والمتحررة. وهو عالم أبعد ما يكون عن تراث النظام المصرى المنغلق، الذى يستخدم فى النهاية نفس نوع اللغة ال"شعبوية"- التى تستعين بتحريك غرائز القبلية، والريبة والشك والكراهية الموجهة نحو الآخر- التى استخدمها "جون ماكين" ونائبته "ساراة بالين" فى مواجهة أوباما خلال معركتهم الانتخابية الأخيرة ضده. بينما لمّحت "بالين"، فى محاولة لتحريك العمق الأمريكى المحافظ، لجذور أوباما المسلمة وقالت إنه سوف يكون متعاطفا مع "الإرهاب"، يريد إقناعنا البعض عندنا، فى سبيل تحريك العمق المصرى المحافظ هذه المرة، بأن أوباما عدو للإسلام! اختلف اتجاه الهجوم لكنها إستراتيجية واحدة ويعرفها أوباما جيدا. ومن هذا المنظور، يتضح أن العالم الذهنى الذى تعيش فيه بعض النخب عندنا أقرب بكثير لعالم ماكين وبوش وبالين عنه لتصورات أوباما، الذى طالما طالب بوقف مثل هذه الحملات التحاملية المتبادلة التى سادت حقبة "بوش". وليس هناك أى ازدواجية أو أى تناقض فى مواقف أوباما المنادية بالحوار والتسامح ورفض إدارته لترشيح فاروق حسنى أو غيره. فالحوار الحر الجاد لا يعنى أنه يجب أن نفرض رأينا (ووزراءنا) على الآخر، وإلا تحدثنا عن المؤامرة وقمنا بإشعال الحملات التحريضية ضده! وقبول أوباما لفكرة الحوار والاحترام المتبادل لا يعنى أنه سيلبى كل مطالب من يتبنى، وبكل سهولة، تلك النظرة ال"ديماجوجية"، التى طالما ناهضها وتغلب عليها أوباما فى بلاده، والتى اشتكينا نحن أنفسنا منها فى الماضى، عندما وجهت ضدنا. من سقط فعلا فى سياق معركة اليونسكو هو معظم الإعلام المصرى. لأنه أثبت، فى سياق تجربة صغيرة وثانوية، أنه لا يتردد لحظة واحدة، كالطفل المدلل عند الخسارة، فى توجيه الاتهامات عشوائيا دون مبرر واضح أو دليل مقنع، يكفى لتبرير تهم خطيرة ك"حرب الحضارات". هذا الخطاب التحريضى هو ما قد سئم العالم فعلا منه، فلا أحد يجب أن يفتعل مثل هذه الحملات الشرسة اللاعقلانية لمجرد أن مرشحه قد خسر منصبا ذا أهمية فعلية محدودة.