تصورت أن شيئاً ما سيحدث للطائرة التى ستقلّنا من بيروت وأنا أرى وجه صديقتى يغرق بصفرة موت وهى تتحدث إلى شخص عبر الهاتف خلال توديعها لنا فى المطار.. لنغيب أنا ومن معى فى ذهول ما لبث أن انقلب الى تساؤل ملحّ عن سبب ذلك الخوف المفاجئ الذى اغتال ابتسامتها الجميلة التى لا تغيب عن وجهها فى أقسى الظروف.. ليستفز فينا القلق والوساوس ما جعلنا نصرّ على معرفة ما حصل.. فما كان منها إلا الإذعان رغبة منها فى طمأنتنا لتبلغنا باقتضاب شديد أن ما أرعبها هو سفر والدتها إلى تركيا وما يسببه ذلك من انشغال سببه اسم والدتها الكردى وما يثيره من مشاكل من المرجّح أن تواجهها من بعض المغالين ربما تؤدى الى التحرش بها وممارسة العنف فعلا أو قولاً.. ولم تكن صدمتى بأقل من خوفها وأنا أصغى منفصلة عما حولى من صور وأصوات إلا كلماتها وكأنها قادمة من عمق بئر.. حتى دخلت بوابة المغادرة جسداً.. بينما فكرى يخترق بوابة مغادرة أخرى إلى مدن مشيّدة على ثقافة خوف تسكنها أقليات مطحونة فى رحى سلطة وتطرف.. أقليات متراصّة فى قوقعة حذر حاولت الأنظمة تجذيره ونموّه من خلال العلاقة بالنظم السياسية والاجتماعية، وبناء سور من عدم التجانس والتسامح والانسجام لتسود الفوضى والأحقاد بدلاً من الشفافية والمكاشفة مما يزعزع الثقة ويفتت الهوية الوطنية إلى هويات جزئية خاصة فى المرحلة الراهنة التى تتعالى فيها أصوات المنظمات الإنسانية لنصرة الأقليات وما يقابله من تصاعد فى الخطاب القومى والدينى لمتطرفين لا علاقة لهم بسماحة الإسلام وخلقه.. ليساهم ذلك مجتمعاً انطلاق فكر الأقلية من دائرة الخوف وتركيزها على تعريف ذاتها من خلال ما يميزها، واستحضار ما كانت تعانيه من اضطهاد من قِبل الأغلبية فى المجتمع الواحد لتزهق فى خضم هذا الصراع أرواح وتراق دماء من هنا وهناك.. وهذا ما نراه جلياً فى العراق وما يحدث من تحدٍ سافر بين هذه الأقلية وتلك بعد أن سقطت الأقنعة التى كانت وسيلة للاندماج مع الأغلبية من خلال المشاركة المزيفة فى الطقوس أو حمل أسماء تطلقها الأغلبية على أبنائها حتى لا يكاد المرء يعرف إن كان هذا الشخص مسلماً أو مسيحياً.. أو آشورياً أو يزيدياً أو صابئياً وهكذا.. لكى يأمن كل منهم بطش الآخر أو ازدراءه.. ومن هنا جاءت أهمية الاسم فى المجتمعات التى تزخر بالأقليات والأطياف وما يشكله ذلك من خطر على صاحبه الذى لم يكن له يد فى اختياره.. فكم من شخص يحمل اسم (أبوبكر وعثمان وعمر) راح ضحية البعض ممن يحركهم الجهل والحقد.. وكم من برىء يحمل اسم (عبدالزهرة أو عبدالحسين أو عباس) أزهقت روحه على يد البعض من المتطرفين.. وكم من أشخاص يحملون اسم ديكتاتور قُتلوا برصاص الكره لذلك الديكتاتور، لعبة قذرة هى لعبة القتل بسبب اسم لا ذنب لصاحبه به أو هوية أو طائفة.. فكم هو مؤلم أن ترانى أنا المخلوق الذى نفخ بى الله من روحه وسجدت الملائكة لى.. وعلمنى الأسماء كلّها.. ووهبنى العقل.. وصنع لى الكون.. أن أقتل بغير حقّ وتسحق آدميتى أقدام وحوش تحركهم خيوط حقد وجهل وأنظمة لا تخاف الله فى قتل نفس حرم الله قتلها إلا بالحق الذى لايعرفه هؤلاء لإشغال الرعية بشرور أنفسهم وأهوائها؟ وأتساءل: هل العيب فينا.. أم سنعلقه أيضاً على شماعة الصهيونية العالمية والإمبريالية؟ إليك... غضبك.. أشواك ذهبية تُنْشب فى جسد حزنى الأبدى.. انتفاضة طفلة غضبى من قبلة صباح خريفى على وجنة خجل.. ريح تغتصب نسيمات الشوق.. شظايا خوف تخترق شغاف الحلم.. عتمة تبتلع شمس الأمل.. تغتال القمر.. تقتنص نجوم الوجد المتراقصة فى الأحداق.. تطفئ مشكاة الغد المتفيئ بظلال القرب.. غضبك.. موجة صقيع تمتص دفء الأمان من موقد الفرح.. رغبة هوجاء تستبيح بكارة الصبر.. موج ضبابى يعكّر صفو الأيام.. وأنا معصوبة العينين.. جاهلة بفنون العوم.. والسفينة بلا شراع.. والشواطئ موبوءة بالحذر.. وأنت تتخايل بسوط الردة.. تجلد صوفية الروح.. تكسر كأس البهجة البلورى.. تريق خمر العشق على صوانى العناد.. غضبك.. يتعبنى.. يحيلنى غصناً تتلاعب به رياح (آذار).. هشّة كهشاشة كعك أمى فى الأعياد.. قطرة ندى حائرة على صفحة ثغر بنفسج.. فمتى تفتح أبواب المساء على معبد الرضا الغارق بموجات نور.. متى نحلّق معاً على أصداء ابتهال عفو.. متى أنهل من عذب رضاك لأروى لك من الحكايات ما لم تروه شهرزاد لشهريار؟ متى يا سيدى.. يا سيد اليوم والغد؟