رغم التحول الإيجابى فى بعض ملفات السياسة الخارجية الأمريكية منذ صعود أوباما، فإن الملف الأفغانى شهد استمرارية لسياسات بوش إن لم يكن اتباع ما هو أسوأ منها فى بعض الجوانب، فمنذ تولى أوباما، صارت السياسة الأمريكية هناك تعرف باسم «أف - باك» إشارة إلى ضم باكستانلأفغانستان، واتخذ أوباما قراراً بإضافة 21 ألف جندى للقوات الموجودة فعلا فى أفغانستان ليصل العدد الإجمالى إلى 68 ألفاً، وصارت الاستراتيجية المعتمدة هى «استراتيجية ملاحقة التمرد»، والحقيقة أن «ملاحقة التمرد» تعبير عسكرى صار منذ حرب فيتنام بمثابة كلمة شفرية تثير فزع أصحاب الضمائر، لأنها تقوم على الاستخدام المفرط للقوة وراح ضحيتها الأبرياء حين استخدمت فى فيتنام وفى العراق، وتقوم تلك الاستراتيجية فى جوهرها على استقطاب الأهالى لمساعدة قوات الاحتلال. والمنطق الحاكم لها هو أن إقبال الأهالى على مساعدة قوات الاحتلال لا يتحقق إلا إذا اقتنعوا بأن الأخيرة تهزم المتمردين فعلاً وتحصدهم حصداً. عندئذ فقط يساعدون قوات الاحتلال إما رعباً منها أو يأساً من نجاح مقاومتها أو رغبة فى الخلاص من الدمار والقتل والترويع، لذلك تستخدم هذه الاستراتيجية القوة المفرطة لتحقيق أهدافها، الأمر الذى ينتج عنه خسائر بشرية ومادية مذهلة. أكثر من ذلك، سلم أوباما القيادة فى أفغانستان للجنرال ستانلى ماكريستال الذى كان مسؤولا عن إنشاء وتدريب «فرق العمليات الخاصة» العراقية، وصاحب الخبرة الطويلة فى تدريب تلك الفرق فى أمريكا اللاتينية. ولمن لا يعرف فإن تلك الفرق هى التى يناط بها العمليات السرية بالغة الشراسة ويروح ضحيتها الأبرياء دون أن يدرى عنها أحد شيئاً. وقد ثبت بالوثائق أن تلك القوات التى دربتها الولاياتالمتحدة فى أمريكا اللاتينية هى التى صارت تعرف لاحقا «بفرق الموت» التى راح ضحيتها مئات الآلاف من كولومبيا والسلفادور إلى جواتيمالا. غير أن استراتيجية «ملاحقة التمرد» تعانى فشلا فى أفغانستان عبرت عنه تصريحات رئيس الأركان الأمريكى، وكشف عنه تقرير أخير قدمه ماكريستال للرئيس الأمريكى يعترف فيه بتدهور الوضع ويطالب بإرسال مزيد من القوات وإلا واجهت أمريكا «الفشل فى مهمتها»، غير أن تحولات مهمة على الساحة الأمريكية قد تؤخر من استجابة أوباما. فاستطلاعات الرأى العام تشير إلى أن أغلبية الأمريكيين صارت ضد احتلال أفغانستان، بينما لم تعد معارضة ذلك الاحتلال تقتصر فى الكونجرس على يسار الحزب الديمقراطى، حيث انضم لها رؤساء لجان وقيادات مهمة فى الحزب. ومن هنا، لن يغامر أوباما باستعداء قيادات حزبه بطلب قوات إضافية على الأقل حتى يمرر مشروع قانون الرعاية الصحية، لكن المأزق الحقيقى لأمريكا فى أفغانستان ينبع فى الواقع من هيمنة الذهنية نفسها التى أدت لهزيمة فيتنام، فالفكرة المسيطرة هى أن «انسحاب» أمريكا معناه «هزيمتها» ووقوع المنطقة كلها فى يد «التطرف»، وهى نفسها فكرة الدومينو الشهيرة التى سادت وقت فيتنام عن «وقوع المنطقة كلها فى يد النفوذ السوفيتى لو انسحبت أمريكا». بعبارة أخرى لم تحدث مراجعة جدية للأسس التى قامت عليها سياسة بوش حين غزا أفغانستان وفى الوقت ذاته يوجد انقسام داخل الإدارة حول الهدف من الوجود الأمريكى ذاته، بل وغياب رؤية حول المطلوب تحقيقه بالضبط.. فحين طولب ريتشارد هولبروك، مبعوث أوباما الخاص لأفغانستان، بتعريف النصر هناك قال: «سنعرفه حين نراه» (!!).. مدهش حقا أن تعيد أمريكا إنتاج السياسات والمقولات المؤدية للهزيمة، وهى عادة هزيمة يدفع ثمنها مئات الآلاف من الأبرياء حول العالم!