فى الثانى والعشرين من شهر يناير 2009، وهو اليوم الثانى له فى الرئاسة، أصدر الرئيس الأمريكى باراك أوباما قرارا بإنهاء برنامج الاعتقال السرى لدى وكالة الاستخبارات الأمريكية (سى. آى. إيه)، وهو القرار الذى نفذ فى التاسع من أبريل الماضى (الذى وافق الذكرى السادسة لسقوط بغداد). وأصدر قرارا آخر بإغلاق معتقل جوانتانامو فى محاولة لمحو وصمة العار الأشهر على جبين الولاياتالمتحدة والرمز الأقوى لانتهاكها واحتقارها لحقوق الإنسان. لم يتطلب الأمر سوى 48 ساعة وليس مائة يوم لأن هذه القرارات وغيرها لم تكن محل خلاف لدى الإدارة الجديدة التى حرصت حتى قبل قدومها على تحسين «صورة» أمريكا التى أساءت إليها الإدارة السابقة. إلا أن الاقتراب من تفاصيل تلك المحاولات يكشف عن أن الكثير منها يقع تحت عنوان تحسين «الصورة» ولم يترجم إلى الآن بشكل عملى أو فعال لإصلاح الأضرار الفادحة الذى ارتكبتها إدارة جورج بوش فى ملف حقوق الإنسان خلال أعوامها الثمانية، سواء خارج الولاياتالمتحدة أو داخلها. ولأن الإرث الذى انتقل إلى أوباما يشمل جرائم حرب، وانتهاك للقانون الدولى الإنسانى وحقوق الإنسان وانتهاك القانون الأمريكى نفسه، فقد أولت منظمات حقوق الإنسان الدولية اهتماما بالغا بالمائة يوم الأولى لأوباما لتقييم أداء إدارته فى هذا الملف الشائك والخطير. ولم يكن مستغربا مدى ترحيب أهم هذه المنظمات بالقرارات السريعة التى اتخذها الرئيس الأمريكى فور توليه منصبه لإصلاح ما أفسده سلفه، لكن الملفت للنظر أنها أجمعت على التشكيك فى فاعلية هذه القرارات لأنها مازالت تتيح الاستمرار فى انتهاكات حقوق الإنسان. ولعل الأسوأ من التشكيك فى تطبيق هذه القرارات بشكل يتوافقا مع القانون الدولى، هو وعد أوباما بعدم محاسبة أو محاكمة مرتكبى هذه الجرائم ومنظّرى تلك الانتهاكات، مفضلا، حسب قوله، «أن ننظر إلى الأمام وليس إلى الخلف». ما حدث فى المائة اليوم الأولى لأوباما، إذن، يفسر كثيرا عبارة منظمة العفو الدولية التى وصفت هذه القرارات وما صدر عن الرئيس الأمريكى بشأن حقوق الإنسان بأنها «رسائل مختلطة»، حسب ما جاء فى تقريرها ذى ال33 صفحة والذى يحمل نفس العنوان. فمثلا، تقول المنظمة إن قرار أوباما بإغلاق معسكر جوانتانامو، صاحبه قرار آخر بإعادة النظر فى المحاكمات العسكرية التى يخضع لها بعض المعتقلين، لكنه لا يلغيها. وحتى الأوضاع السيئة التى يعانى منها معتقلو المعسكر منذ 2001، ستتم إعادة النظر فيها، حسب قرار أوباما، لتتماشى مع اتفاقية جنيف الثالثة (الخاصة بمعاملة سجناء الحرب) و«القوانين الأخرى»، دون أن يحددها، مما يترك المجال لاحتمال الاستمرار فى سوء معاملتهم. وحتى قرار إغلاق المعسكر نفسه والذى ينص على ألا يتجاوز تنفيذه مدة العام أى يناير 2010 ترك المجال مفتوحا للإبقاء على بعض المعتقلين لمدة عام آخر بعد هذا التاريخ فى المعسكر دون محاكمتهم. أما منظمة «هيومان رايتس واتش» فأشارت فى تقريرها التقيمييى لأوباما، إلى أن معتقل جوانتانامو الذى يحتوى على 240 معتقلا، لم يتغير فيه الكثير خلال المائة يوم الماضية ولم يتم الإفراج سوى عن شخص واحد فقط خلال تلك الفترة. ولعل قرار أوباما الشهر الماضى نشر أربع مذكرات سرية حول التعذيب بأسلوب «الإغراق»، رغم شجاعته، يظل الأكثر جدلا، مقارنة بقرار إغلاق جوانتانامو وإنهاء برنامج الاعتقالات السرية. وذلك لأن أوباما نفسه اعترف بأنه سمح فقط بالكشف عن هذه المذكرات لأنها كانت محل معارك قانونية أمام المحاكم الأمريكية وأن جزءا كبيرا من محتواها كان قد كُشف عنه بالفعل. مما يعنى أن ما حدث هو قرار استثنائى، لا يهدف إلى إقرار الشفافية والكشف عن ممارسات بعض الأجهزة فى إدارة بوش. وتقول هيومان رايتس واتش: «يستحق الشعب الأمريكى أن يشهد محاسبة تامة وعلنية للمسئولين عن الانتهاكات التى تمت بعد 11 سبتمبر، وأن يعرف كيف ولماذا حدثت؟.. وكذلك يجب أن يقف المسئولون عن الاختفاء القسرى والتعذيب بعد 9/11 أمام القضاء». وهو ما يرفضه أوباما رغم ما أبداه من استعداد مبدئى لتشكيل لجنة غير حزبية لبحث الانتهاكات التى كشفت عنها المذكرات الأربع الخاصة بممارسات السى آى إيه. فإن تراجعه الذى رصدته «هيومان رايتس واتش» لا يخلو من دلالة. يقول علاء شلبى، المحامى بالمنظمة العربية لحقوق الإنسان ل«الشروق»، إن «مراكز القوى» داخل إدارة أوباما لا تسمح له بعمل الكثير. وإذا كان قرار حماية المسئولين عن الانتهاكات الواردة فى المذكرات الأربع أثار غضب منظمات حقوق الإنسان، فيبدو أن حمايتهم متسقة مع حرص الإدارة الحالية الشديد على إخفاء ما هو أعظم ويدين بشكل قاطع كبار المسئولين فى إدارة بوش. فربما يعتقد الكثيرون أن المحاكمات التى تمت بعد كشف فضيحة سجن أبوغريب بالعراق أنها حسمت المسألة، إلا أن شلبى يرى أن «تلك القضية لم تنته لأنها كانت محاكمات هزلية على مستوى بعض الجنود» بينما تُرك «الجناة الحقيقيون» الذين سمحوا ونظروا لتلك الانتهاكات «كوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد ونائب بوش، ديك تشينى». ويقول إن: «هناك سرية شديدة تحيط بالمشرفين عن قرارات انتهاكات تلك الفترة، إلا أن مثل هذه الانتهاكات، حسب شلبى، «لا تسقط بالتقادم». وبينما يستمر الجدل حول تلك الانتهاكات «الجسيمة» التى روعت العالم فى شكل صور أبوغريب المخيفة أو تلك الصادرة عن جوانتانامو بكوبا، يثير الصمت المطبق تجاه ما تعرضت له الجالية العربية أو المسلمة بالولاياتالمتحدة فى أعقاب 9/11، علامة استفهام كبيرة. فهؤلاء الذى يقدر عددهم بحوالى 6 ملايين حسب التقديرات المستقلة ومليون ونصف المليون حسب الإحصاءات الرسمية، كانوا، ولا يزالون، أولى ضحايا قوانين مكافحة الإرهاب التى أقرت فى 2001 ولم تلغ أو يعاد النظر فيها. إذ شملت تلك القوانين التى استهدفت بالأساس المسلمين والعرب انتهاك خصوصياتهم ومراقبتهم وفى كثير من الأحيان ترحيلهم دون سند قانونى. محمد حقى، المحلل السياسى والمحاضر المصرى الذى يقيم بأمريكا منذ 37 سنة يصف شعوره بالأجواء التى يعيش فيها هناك منذ 2001 ب«الخوف والرعب» حسب ما قاله ل«الشروق». فهو يعلم أن مراسلاته البريدية والإلكترونية مراقبة تماما وأنه يكتشف أحيانا أن بعض رسائل بريده الإلكترونى «لا تصل أصلا». ويشكو من أن ابنته الشابة التى يستلزم عملها السفر كثيرا عبر الولاياتالمتحدة، تتعرض للتفتيش الذاتى، دون مبالغة، «فى كل سفرة». وقد يكون هذا النموذج هو السائد لدى السواد الأعظم من العرب والمسلمين هناك، إلا أن هذه القضية التى تتسم بالتمييز العنصرى غائبة تماما عن خطاب أوباما التصحيحى وعن اهتمام الرأى العام فى أمريكا. ويعزو حقى هذا الوضع بسبب «ضعف الجالية العربية والمسلمة» ورجح أن أوباما نفسه يتجنب الخوض فى هذه المسألة نظرا ل«حذره» الشديد تجاه أصله المسلم. وكان ذاك الحذر هو أيضا سمة ردور فعل المنظمات العربية والإسلامية بأمريكا تجاه تعامل أوباما مع ملف حقوق الإنسان. حتى منظمة «كير» الإسلامية الأشهر فى أمريكا التزمت الصمت تجاه قرارات أوباما، بينما رحبت «اللجنة العربية الأمريكية لمناهضة العنصرية»، وهى أكبر منظمة عربية أمريكية مستقلة، بها. ويقول يوسف منير المتحدث باسم اللجنة ل«الشروق» إنه رغم ارتياح الجالية العربية لانتهاء حقبة بوش وتبنى أوباما سياسية تصحيحية، فإن اللجنة ستستمر فى رفع مطالبها الخاصة بإنهاء التمييز العنصرى وإلغاء القوانين والإجراءات التى تستهدف العرب بصفة خاصة، وكذلك المطالبة بالشفافية فى تطبيق القوانين الخاصة بالمراقبة الأمنية للعرب والمسلمين هناك. قد تكون المائة يوم الأولى لأوباما غير كافية للحكم عليه، كما يقول شلبى. إلا أن أوباما أخفق بشكل كبير فى أهم ما قد يميزه ليس كرئيس شاب يتمتع بشعبية كبيرة، ولكن لرمزية خلفيته الاثنية وما تعنيه بالنسبة لما يقال حول التحول التاريخى فى الرأى العام الأمريكى، وذلك عندما قاطعت الإدارة الأمريكية مؤتمر الأممالمتحدة لمكافحة العنصرية بجنيف الشهر الماضى، وهو الحدث الذى كان مفترضا، حسب شلبى، أن يحرص أوباما «الملون» على دعمه، «وهنا نرى كيف أن الإدارة ومن فيها قد يشكلان ما هو أقوى بكثير من أوباما نفسه».