عندما كنت طالبة (زمااااان) بالفرقة الرابعة بكلية الآداب كان مقررا علينا فى منهج الرواية رائعة جوزيف كونراد «قلب الظلام»، ومحورها استغلال السود وتعذيبهم فى أفريقيا. تحتوى الرواية على مشهد مطول يصور تفصيلا كيفية اقتياد هؤلاء المعذبين فى أغلال حديدية تمهيدا لشحنهم إلى أمريكا، وكان هذا المشهد من المقاطع المهمة التى ينبغى الالتفات لها لفهم نغمة الراوى فى السرد وتأثير ذلك عليه. ولأننى أكره مشاهد التعذيب ولا تغادر ذاكرتى منذ أن غفلت عنى والدتى وأنا صغيرة فأخذت أقرأ سنة أولى سجن لمصطفى أمين. منذ أن ارتكبت ذلك الخطأ غير المقصود وأنا أجفل من كل ما له علاقة بالتعذيب (غالبا مثل كل البشر فيما عدا قلة تستلذ بإعادة سرد تلك المشاهد). ما كان منى إلا أن قمت بمغامرة غير محسوبة إطلاقا قبل الامتحان فقررت أن أسقط هذا المشهد من الرواية وكأنه لم يكن، والحقيقة أن المغامرة نجحت بالصدفة البحتة فلم يكن هذا الجزء مطلوبا فى الامتحان. عدت لتذكر تلك الواقعة مؤخرا عندما ظهرت موجة القتل (غالبا طعنا بسكين حاد) الرهيب، فكل يوم تطالعنى فى الصحف واقعة مهولة، لم يعد القتل يرحم أحدا ولم يعد يفرق بين طفل وكبير، غنى أو فقير. وقائع تثير الرعب لأنها تعنى ببساطة أن كلنا معرضون لذلك- معرضون للذبح هكذا إما بدون سبب (كحالة الطفلين زياد وشهد) أو بسبب ممتلكات خاصة لا يجب أن تثير شهوة القاتل (كحالة رئيسة قسم الائتمان) أو لأسباب غامضة (كحالة هبة ونادين). إذا كان وباء أنفلونزا الخنازير (التى لم تصل مصر رسميا بعد) قد أثار كل ذلك الفزع المضطرب الكارثى فما بالنا بالفزع الذى يمكن أن تثيره وقائع الذبح والقتل المتكرر الذى لا يتضمن بالضرورة سرقة مصوغات أو أموال. كلما أتذكرالآن واقعة إغفالى لمشهد التعذيب فى رواية كونراد أتحسر على تلك الرفاهية وذاك النعيم الذى كان متوافرا فى تلك الأيام. تخيلوا مدى الراحة المرفهة التى تجعلنى أنفر (يا حرام!) من مشهد فى رواية. هل كان يخطر ببالى أو ببال أى أحد أن يجىء اليوم الذى تتحول فيه وقائع القتل إلى حدث يومى متكرر، والخوف كل الخوف أن يكتسب القتل صفة العادية من كثرة التكرار. [قطع اضطرارى: الآن وأنا أكتب المقال اتصلت بى صديقة لتحكى لى عن صديقة أخرى كادت أن «تذبح». كانت تقود سيارتها على الطريق الدائرى ثم اضطرت للانحراف إلى أقصى اليمين لأن سيارة أخرى بها شابان قاما بالكسر عليها. توقفت سيارتها تماما وتوجه الشابان نحوها شاهرين مطواة وتم تهديدها أن «الحقيبة وإلا..». ذهبت الحقيبة ونجت الصديقة. نسيت أن أذكر أمرا مهما: كان ذلك فى الثانية عشر والنصف ظهرا.] نعلم جميعا أنه من كثرة بث مشاهد الصراخ والموت والدماء وهدم المنازل فى فلسطين لم يعد الشارع العربى يتحرك تجاه ما يحدث كما ينبغى له (أو على الأقل كما يتوقع منه) وقد ظهرت العديد من الدراسات فى مجال الإعلام تؤكد أن تكرار بث المشاهد جرد الحدث من الوقع الرهيب وفرغ الاحتلال من معناه، فالعين عندما تعتاد على مشهد يومى يفقد الأمر خطورته. هل سوف نعتاد على القتل والذبح؟ هل يجىء اليوم الذى لا نحرك فيه ساكنا تجاه إزهاق روح؟ هل يمكن أن تكون الأزمة الاقتصادية الطاحنة سببا فى قبول الجريمة اليومية (سواء منظمة أو عشوائية) وقبول إعلان المواطنين عن انتحارهم أمام المتحف المصرى وقبول قيامهم ببيع أطفالهم؟ كم كانت رائعة رفاهية الأيام الخوالى التى تسمح بإغفال «مشهد» أدبى، كم كنا غافلين عما تدخره لنا الأيام، كم كنا نرفل فى نعيم الأدب.. آن الأوان أن ننتقل إلى الذبح.