لا يحتاج المراقب إلى أى جهد ليقرر أن زيارات السيد جمال مبارك إلى القرى الأكثر فقراً فى مصر، لن تؤدى إلى إعادة بناء أو تنمية حارة واحدة فى آلاف القرى المتدهورة خدمياً واجتماعياً واقتصادياً. قد يكون رئيس لجنة السياسات حريصاً فعلاً على تخفيف حدة الفقر فى هذه القرى، وقد يتمكن من إرغام القيادات المحلية على رصف طريق هنا أو هناك، ولكنى أزعم أن هذه الزيارات ستسفر فى نهاية الأمر عن أنها كانت نوعاً من الحشد الجماهيرى المطلوب لرصف طريق جمال مبارك إلى رئاسة الجمهورية! الدليل على سقوط التنمية الريفية وفقراء القرى من حسابات المسؤولين يتمثل فى أكثر من 32 ألف موظف فى مشروع مراكز معلومات التنمية المحلية، التابع لجهاز بناء وتنمية القرية المصرية، استخدمتهم الحكومة فى إنجاز عشرات المشروعات شديدة الأهمية، عجزت وزارات عديدة عن إنجازها طوال تاريخها الحديث، ومع ذلك تعاملهم وكأنهم أرِقَّاء فى تفتيش زراعى يملكه إقطاعى عتيد. والحكاية أن الحكومة أعلنت فى أغسطس عام 2001 عن ثلاثة برامج لتشغيل شباب الخريجين، وكانت مراكز معلومات وزارة التنمية المحلية هى أحد هذه البرامج التى استوعبت أكثر من 32 ألف خريج، بدأوا العمل فى 1 يناير 2002، ولم يتقاضوا أول راتب إلا بعد 3 أشهر كاملة، وظلوا حتى يومنا هذا يعانون من تأخر صرف الرواتب لأكثر من ثلاثة شهور. الأهم من ذلك أنهم اكتشفوا أن رواتبهم تم تحديدها كالتالى: 100 جنيه للمؤهل المتوسط، و120 جنيهاً للمؤهل فوق المتوسط، و150 جنيهاً للمؤهل العالى، وظلوا من يناير 2002 حتى يومنا هذا محرومين من أى زيادات فى الأجور، إضافة إلى أنهم ظلوا حتى نهاية عام 2004 محرومين من الإجازات الاعتيادية والعارضة والمرضية، وفى حالة اضطرار أحدهم إلى الإجازة تخصم من راتبه الهزيل. وفى عام 2005 تدخلت وزارة التنمية الإدارية، وألزمت التنمية المحلية بمنحهم إجازة مدفوعة الأجر 15 يوماً فقط فى السنة الميلادية. الاستعباد الحقيقى لهؤلاء الموظفين فى الحكومة يتمثل فى عدم خضوعهم لمظلة التأمين الصحى، وحرمانهم أيضاً من التأمين الاجتماعى، وقد خاطبت الهيئة القومية للتأمين الاجتماعى رئيس جهاز تنمية القرية المصرية أكثر من مرة، وطالبته بسرعة سداد تأمينات هؤلاء الموظفين، فأجاب الجهاز مرة بأن رواتبهم تصل من وزارة المالية دون حصص تأمينية، ومرات بأنهم مجرد متدربين وليسوا موظفين. بقى أن نعرف المشروعات التى أنجزها هؤلاء الموظفون، لندرك عمق الاستهتار الإجرامى بالقرية المصرية، وحجم الاستخفاف المهين بالمواطنين الأكثر فقراً والموظفين المكلفين بإعداد قواعد بيانات عن أحوالهم. من هذه الإنجازات حصر شامل ودقيق للنساء المعيلات فى القرى والمدن، وحصر عددى ونوعى لذوى الاحتياجات الخاصة، وحصر لورش السجاد والكليم، وأعداد المبانى السكنية والمنشآت الخدمية فى القرى، وأعداد المتسربين من التعليم فى محافظات مصر، وأعداد الشقق الخالية والمغلقة فى المدن والقرى، وأعداد وأماكن البرك والمستنقعات فى بعض المحافظات، وعدد الأطفال العاملين، وحصر للأمراض المتوطنة، وعدد النخيل فى مصر، وعدد العاملين بحرفة الصيد، وعدد السجلات الصناعية والتجارية فى كل محافظات مصر، وأخيراً تكليفهم بمحو أمية المواطنين فى مئات القرى المصرية، بعد أن عجزت الهيئة القومية لمحو الأمية وتعليم الكبار عن محو أمية مواطن واحد، بحجة أن الموازنة المرصودة لها لا تزيد على 175 مليون جنيه فى السنة! لهذا كله لا أصدق كلمة واحدة مما يقال عن تنمية القرى الأكثر فقراً.. أيا كان قائلها. [email protected]