منذ فترة غير بعيدة بدأ اهتمام مفاجئ من قبل جمال مبارك، الأمين العام المساعد، أمين لجنة السياسات فى الحزب الوطنى، بقرى مصر فى الدلتا والصعيد، وتم الترويج إعلامياً لهذه الزيارات التى راح يتنقل خلالها بين عدد من القرى التى تمت تسميتها القرى الأكثر فقراً، ثم تحولت التسمية بعد قليل إلى «القرى الأكثر احتياجاً». لم يتضمن إحصاء الحزب الوطنى تلك القرى التى أقر البنك الدولى، فى تقرير سابق له، بأنها الأكثر فقراً فعلاً فى مصر، والتى نشرت «المصرى اليوم» حينها سلسلة من التحقيقات ترصد خلالها حياة شريحة من المواطنين المنسيين الذين يعيشون حياة بدائية، ينقصهم فيها من سبل العيش كل ما هو آدمى وضرورى.. اصطحبنا القارئ فى زيارة لقرية «إبشادات» فى المنيا، ثم إلى «الزرابى» فى أسيوط، ونزلة القاضى فى سوهاج وها هى رحلة جديدة اليوم إلى «منشأة رضوان» فى الشرقية. منشأة رضوان.. الفقر الذى يحتاج 100 عام للقضاء عليه آثار زيارة جمال مبارك إلى قرية منشأة رضوان التابعة لمركز أبوكبير فى الشرقية، لاتزال واضحة فعلاً، ففى مدخل القرية وضع كشك للخدمات الجماهيرية تابع لوزارة التنمية الإدارية، من خلاله يتم استخراج الشهادات والأوراق الرسمية بدلاً من الذهاب إلى السجل المدنى للمدينة، وغيره من المصالح الحكومية، إلا أن القرية تبدو رغم ذلك هى الأفقر والأكثر احتياجاً من بين القرى التى زرناها. لا يوجد هنا سوى طريق واحد ممهد يخترق القرية حتى القرى التالية، جدران المعهد الدينى تحولت إلى حظيرة للمواشى، يفصل بينها وبين المقابر طريق ضيق عرضه متران، يقودك فى النهاية إلى المجلس المحلى، حيث يجلس هناك قرابة 20 شخصاً بزيهم الريفى، يصحبون لجنة من مجلس الوزراء، راحت تتابع أعمال التنمية فى القرية التى وعد بها جمال مبارك خلال زيارته. تتقاسم هذه القرية 230 ألف جنيه مع 5 قرى أخرى هى نصيبها من الخطة الخمسية للدولة، تقسم أيضاً على 57 ألف مواطن، هم سكان هذه القرى، لذا فلكى تصل هذه القرى إلى مستوى التنمية الذى تتحدث عنه الدولة، تحتاج إلى 100 عام على الأقل، هكذا يتحدث عمدة القرية الحاج عز الدين عزب. ويواصل عزب: «بعد زيارة الأستاذ جمال مبارك، وصل إلينا شيك قيمته 700 ألف جنيه، وهو ما جعلنا نشعر أننا نسير على خطى التطوير بشكل حقيقى، فنحن من القرى المنسية منذ زمن، ونحتاج إلى مدرسة ابتدائية أخرى على الأقل، ووحدة لطب الأسرة، وسيارة إسعاف، علاوة على زيادة سعة سنترال القرية بعد أن قارب عدد سكانها على 15 ألف نسمة، فى حين أن سعة السنترال لا تتجاوز 4 آلاف وخمسمائة خط». الرقعة الزراعية هنا كبيرة إلى حد ما، الفلاحون مازالوا يعيشون الحياة البدائية، فى الرى والزراعة ونقل المحاصيل وتخزينها، بداخل القرية يبدو الفقر متجلياً فى أبهى صوره، تراه فى كل شىء حولك، شفاعات محمد هى أم لأربع فتيات، أصغرهن تجاوزت منتصف ربيعها الثانى بقليل، رحل الأب وترك عبء التربية عليها، فراحت تبيع الخضروات كعادة الأرامل فى الريف، يوم علمت بزيارة جمال مبارك والدكتور على المصيلحى، وزير التضامن الاجتماعى، كانت من أوائل المتهافتين على باب الفيلَّا التى خصصت للقاء، والتى يملكها المرشح لعضوية مجلس الشعب طارق سالم. سلم المواطنون بطاقات الهوية لأفراد الأمن الذين احتجزوا المواطنين طوال اليوم لحين قدوم الزائر المنتظر، فيما سمح لبعضهم بالحديث، وعندما ألحت «شفاعات» وكسرت حاجز الترتيبات المعدة مسبقاً - بحسبها - طلبت من نجل الرئيس أن يزور بيتها ليرى الوضع الذى تعيش فيه مع بناتها، مثلها مثل كل جيرانها، فوعدها أن يتم بناء بيت لها من الأسمنت المسلح، ومرت الشهور، و«آدى وش الضيف».. تعلق السيدة «طلع كلام زى كلام الحكومة.. حلو لكن مابيحصلش». سلمى ياسين تشكو هى الأخرى مر الشكوى من البنية التحتية للقرية، تقول: «إحنا محتاجين كل حاجة وماعندناش أى حاجة.. الشوارع الضيقة وعربيات الكسح مابتقدرش تدخل عندنا، ولا إحنا قادرين نركب صرف أهالى، ولما الخزانات بتطفح بتبقى مشكلة، وماحدش دارى بينا»، تعول كثيراً على زيارة جمال مبارك، تقول إنه «مافيش بلد زى بلدنا فى البؤس والضنك، همَّا اللى رمونا فى الفقر ده وهمّا اللى لازم ينتشلونا منه». شعبان فكرى، ظن فى البداية أننا جئنا لتقديم مساعدات مادية، راح يجذبنا إلى داخل منزله، ينقلنا بين حجراته كقطع الشطرنج، أنت لا تملك هنا سوى أن تطيعه وإلا سينفجر بركان غضبه فى وجهك، يشير بيده إلى تشققات الجدران والأسقف، فيما يزبد فمه بالسباب واللعان على الوعود والمسؤولين، يسألك: «من المستفيد من وجود مصريين يعيشون هذه المعاناة؟ أمن أجل أن يأتوا ليلقوا لهم بالفتات فى أيام الانتخابات ويكسبوا أصواتهم أم لكى يشعر الأغنياء بغناهم، فيطبقوا على الفقراء بأقدامهم حتى يغوصوا فى التراب؟!». ابنته ذات العشرين عاماً تنام معه هو وزوجته فى الغرفة نفسها، الغرفة الثانية بالكاد تكفى الأبناء الخمسة الذكور، يباغتك وقد ارتسمت على وجهه علامات الحياء «أنا مش عارف أمارس حياتى الطبيعية.. ليه مابيساعدوناش، ولَّا لازم نعيش فى خيم أو بيوتن تقع علينا فى زلزال أو سيول عشان يفتكرونا؟». محمد التهامى، واحد من شباب القرية، لم يجد عملاً مناسباً، فقرر أن يتحول إلى بائع شاى، فأغلب الشباب هنا عاطلون إلا من استطاع الحصول على عمل مؤقت فى إحدى المدن المجاورة، يقول تهامى إن أهم ما تم تحقيقه منذ هذه الزيارة هو إنارة 500 متر هى مدخل القرية، عدا ذلك لا شىء يحدث: «بيقولوا فى فلوس وصلت القرية وتبرعات، بس ماحدش عارف مين بياخدها وبيعملوا بيها إيه». مشروع الصرف الصحى هنا قيد الدراسة، وحتى اللحظة، لاتزال عربات «الكسح» هى المنوط بها هذه المهمة، لا توجد مشكلة فى مياه الشرب «إن وجدت.. فالطلمبات الحبشية تكفى»، يعلق التهامى: «أما عن اختيار القرية ضمن القرى المحتاجة.. فالناس بجد محتاجة كل حاجة.. بس الحاجة الوحيدة اللى شبعوا منها هى وعود المسؤولين».