منذ فترة غير بعيدة بدأ اهتمام مفاجئ من قبل جمال مبارك، الأمين العام المساعد، أمين لجنة السياسات فى الحزب الوطنى، بقرى مصر فى الدلتا والصعيد، وتم الترويج إعلامياً لهذه الزيارات التى راح يتنقل خلالها بين عدد من القرى التى تمت تسميتها القرى الأكثر فقراً، ثم تحولت التسمية بعد قليل إلى «القرى الأكثر احتياجاً». لم يتضمن إحصاء الحزب الوطنى تلك القرى التى أقر البنك الدولى، فى تقرير سابق له، بأنها الأكثر فقراً فعلاً فى مصر، والتى نشرت «المصرى اليوم» حينها سلسلة من التحقيقات ترصد خلالها حياة شريحة من المواطنين المنسيين الذين يعيشون حياة بدائية، ينقصهم فيها من سبل العيش كل ما هو آدمى وضرورى.. اصطحبنا القارئ فى زيارة لقرية «إبشادات» فى المنيا، ثم إلى «الزرابى» فى أسيوط، ونزلة القاضى فى سوهاج و«منشأة رضوان» بالشرقية وها هى رحلة جديدة اليوم إلى «أنشاص الرمل» فى الشرقية. «أنشاص الرمل».. عندما يفضح الواقع زيف الادعاء فى «أنشاص الرمل» بدا الوضع مختلفاً قليلا، المنشآت والطرق والمبانى الحكومية تقول إنها مدينة وليست قرية، أغلب الطرق فيها ممهدة، وفى مدخلها محطة لرفع الصرف الصحى، علاوة على وجود محطة للقطار، و12 مدرسة متنوعة. يشكو الاهالى من رداءة رغيف الخبز، بعضهم يطالب بزيادة تراخيص البناء، خاصة أن القرية بأكملها من العمارات ذات الطوابق الأربعة، عدا 7 قراريط ملاصقة لقسم الشرطة، تمثل 9 بيوت طينية مقسمة إلى غرف كثيرة صغيرة، تحتضن كل غرفة منها أسرة قوامها لا يقل عن 10 أفراد، يسكنها أحفاد قبائل بدوية ترجع بجذورها إلى صحراء العريش، يصل عددهم إلى 300 فرد، يسميهم أهل القرية «العرايشة» ويعتبرونهم «وصمة عار يجب الخلاص منها»، بحسب نادى رءوف، صاحب محل للبقالة. على ناصية الشارع وقف «نبهان حمد» متحفزا، ظن فى البداية أننا من مهندسى البلدية الذين جاءوا لإزالة المنازل، سرعان ما تجمع إخوته وأبناء عمومته وهم على أهبة الدخول فى معركة، وما إن أفصحنا عن هويتنا حتى تبدل الحال، راح نبهان يحكى قصة القراريط السبعة التى تؤوى «العشيرة» ، وزيارة الأستاذ جمال مبارك لأنشاص الرمل، «أخذ جدودنا هذه الأرض بوضع اليد منذ عام 1948، واستوطنوها منذ حينها، وتوارثناها حتى الآن، بعدها قام المجلس المحلى بتوفيق أوضاع كل من حولنا عدانا، ولما عرفنا بزيارة، ابن الريس، شعرنا بأنها الفرصة الأخيرة لنا، وفى يوم الزيارة أحيطت القرية كلها بسياج أمنى، وتم نصب كردون أمنى حول مداخل القرية، وقسمت القرية إلى نصفين، يفصلهما شريط السكة الحديد الذى تراصت فوقه قوات الأمن.. وقضى جمال مبارك يومه ولم يره أحد من المواطنين». يلتقط ابن عمه «السعيد حمد» طرف الحديث، لكن لهجته كانت أكثر حدة «ابن الريس ماراحش فى حتة.. فضل فى الخيمة مع المحافظ والوزراء، ماكلفش نفسه ينزل يشوف الناس محتاجة إيه.. أمال عاوز يبقى ريس إزاى». البيوت من الداخل تبدو مهترئة، تبدو فى هيئتها وتكوينها نموذجا لبيوت منذ قرون قديمة، النساء مازلن يستخدمن الكانون للخبز، والمراحيض عبارة عن قوالب من الطوب الأحمر تلقى بالصرف فى «برميل» من «الصاج» يتم نزحه كل 3 أيام، الحمام عبارة عن سقف خشبى متهالك، وجدار تهدم بفعل سيارة نقل، تم سده بجذوع النخل بعدما رفض المجلس المحلى أى أعمال بناء أو ترميم، فصار من بالخارج يرى من بداخله بسهولة، حتى من مسافات طويلة. يواصل السعيد حديثه: «ابن الريس لما جه قال أنا عاوز أعملُّكم مشروع» قالوا له – يقصد رئيس المجلس المحلى «ابنى لنا مساكن شعبية للشباب، واختاروا الأرض بتاعتنا عشان يبنوا عليها، مع إن القرية مليانة أراضى فاضية ملك للدولة، ومن يوميها كل يوم يبعتوا ناس يهددونا بالطرد والإخلاء وإحنا رافضين.. يعنى هانبقى شحاتين وكمان نايمين فى الشارع.. هوه ده اللى ابن الريس عاوز يعملهولنا». تعمل أسر هؤلاء البدو فى التسول، وهم لا ينكرون ذلك، ربما كان هذا هو سبب تعنت المسؤولين معهم، طارق مرتضى أحد الجيران يقول إنهم حسنو السمعة، لكن البعض يخشى الاختلاط بهم، لأنهم يطلقون نساءهم وبناتهم للتسول فى المدن والقرى المجاورة، أما الرجال فيجلسون بالبيت «حياتهم غريبة ومريبة»، يعلق طارق. مدارس القرية تبدو غاية فى النظافة، الطلاب أنفسهم تبدو ملابسهم أنيقة، نادرا ما تجد هنا طفلا متسرباً من التعليم، خالد السروجى، مدرس بإحدى المدارس الابتدائية الثلاث بالقرية، راح يؤكد أن جميع المدارس بها معامل للكمبيوتر وأنشطة ترفيهية، وأن الأسر أصبحت تهتم بتعليم أبنائها بشكل أكبر، ويرى خالد أن زيارة جمال مبارك جاءت لتضفى جوا من الحيوية المؤقتة على القرية التى شهدت تطويرا فعليا قبل زيارته بثلاثة أعوام، وأن هناك قرى كثيرة مجاورة تستحق أن توصف بأنها الأكثر احتياجا مثل قرية «سلامنت» المجاورة، والتى تفتقر لكل معانى الحياة الآدمية والبنى التحتية والمرافق. ما إن تتوغل قليلا داخل القرية حتى تلاحظ طبيعتها المختلفة، ليس فقط فى المبانى المرتفعة، ولكن فى طبيعة المحال نفسها، فليس من الغريب هنا أن تجد «سوبر ماركت» كبيراً يتيح للمتسوق سلعاً مختلفة ما بين المستورد والمحلى وبأسعار مختلفة، رقية حامد، ربة منزل، تتمنى لو يتم التعجيل بإدخال الغاز الطبيعى للمنازل، المشروع بدأ لكن لم يتم الانتهاء منه بعد، ترى أنه سيقضى على مشكلات كثيرة، من بينها التكدس الذى قد يكثر فى الأوقات التى تتحول فيها الأنبوبة إلى سلعة شحيحة، كما أنه يقضى من جانب آخر على التلوث السمعى – بحسب قولها. ربما يبدو أن أكثر ما يلفت الانتباه فى هذه القرية هو كثرة المقاهى، روادها أغلبهم من الشباب ما بين العشرين والثلاثين، خاضوا تجربة البحث عن عمل بلا نتيجة، منهم من ذهب للعمل فى مصانع العاشر من رمضان، لكن الأجر الزهيد والمسافة الطويلة بين القرية وبين هذه المصانع حال دون مواصلة العمل، صحيح أن بعض أماكن العمل توفر أماكن إقامة للمغتربين، لكن المقابل المادى لا يستحق كل هذا العناء، لذا فقد فضلوا البقاء هنا أملا فى الوصول للفرصة الأفضل. طارق منصور قال إنه يتوقع أن تتسبب زيارة جمال مبارك للقرية فى جلب فرص عمل بداخلها للشباب، وقاطعه شاب آخر مطالبا إياه بأن يكون أكثر واقعية «الزيارة دى شو إعلامى ومش ها تتكرر»، ليرد ثالث: طيب ما احنا طول عمرنا منسيين، لما حد يفتكرنا نقول شو إعلامى وكلام فاضى، مايمكن الراجل ده عاوز يغير بجد، وأهو خلونا نستفيد منه وخلاص». يقول طارق إن المهنة المعتادة للخريجين والعاطلين هنا هى إما العمل كسائق ميكروباص أو توك توك ،أما إن كان يملك رأس مال كافياً، فعليه استغلاله فى «نت كافيه» أو «سنترال»، لكنه يعود وينتقد هذه الأفكار بأنها صارت مقلدة لدرجة أصابتها جميعا بالكساد.