لو أن مركزاً للبحوث تفرغ لدراسة صحف يوم واحد لاكتشف أن فيها علاجاً لكل مشاكل مصر. آلاف الأفكار يلقيها الكتاب على جانبى الطريق يومياً، والقليل منها فقط يجد من يهتم به، ويحاول تطويره إلى أعمال. ومن يعرف ألم محاولات نزح البحر، وأسف بناء قصور من الرمل، يدرك ما يتحمل الكاتب من مجهود عصبى، لكى يواصل تطويح أفكاره إلى المجهول. وفى مرات نادرة يكتشف الكاتب أن هناك من توقف أمام فكرته وسعى إلى مناقشته فيها، ولولا هذا ما استمر أغلب الكتاب فى الكتابة، فهذا التواصل، يشبه أن يعيد أحدهم مفقوداتك بعد يأس من العثور على أثر لها. وقد أهدتنى الدكتورة ناهلة حتة هذا الشعور بالغبطة، عندما أعادت مناقشتى فى مقال نشرته هنا منذ عدة أشهر بعنوان «متى يصنع الغاضبون اقتصادهم» وكنت أنطلق فيه من ملاحظات على الأداء الاقتصادى السياسى فى مصر فى العقود الثلاثة الأخيرة الناشفة الدموع، والجور على قدرات ومقدرات المصريين بسبب تحالف المال والسياسة. *** ببساطة هناك سبق إصرار وتعمد على خلق طبقة من الرأسمالية محدودة العدد، من خلال منح غير شرعية من الأرض، تحول أحدهم مليارديراً بين ليلة ومنتصفها، وفى المقابل هناك إصرار على طرد رأس المال الصغير من السوق، بحيث ينقسم المجتمع بحدة بين قلة تملك ما لا تستحق، وأغلبية محتاجة تتلقى إحسان المليارديرات المحسنين الذين تم تصنيعهم فى معامل الفساد السياسى. الهدف من هذا التوجه واضح، فهو يشبه تقطيع أطراف المجتمع، لكى لا يبقى أمامه سوى التسول، لتبقى العين خفيضة، بعكس الحال لو نشأ مجتمع اقتصادى حى وفاعل ببرجوازية صناعية وطبقة متوسطة عريضة. المليارات المطرودة من السوق أغلبها فى أيدى العمالة المصرية البسيطة فى المغتربات الأوروبية، والعمالة المهنية فى الخليج العربى، وهذه الأموال محكوم عليها بالدوران فى أنشطة غير مفيدة كالمغالاة فى المهور وكل مظاهر البذخ، وما يتبقى يتوجه إلى القطاع العقارى، ليس المنظم غالباً؛ حيث يقتصر استثمار العمال البسطاء على بناء الأرض الزراعية بالقرى وعشوائيات المدينة. هؤلاء المضارون، طردهم الإخفاق الرسمى مرة بعجزه عن توفير فرص عمل لهم فى بلادهم، وعندما عادوا بالأموال طرد أموالهم من السوق لصالح المسوخ الاقتصادية الكبرى التى تركز نشاطها فى المضاربة على الأرض وبعض الصناعات التى تلبى هوس البناء، من حديد وأسمنت وسيراميك. وبقى الكثير من الصناعات الصغيرة مجالاً للغزو الصينى من قلامات الأظافر وفانوس رمضان إلى الأحذية الرياضية والتحف المنزلية وأجهزة الإضاءة، والكثير غيرها من صناعات صغيرة تناسب رؤوس الأموال المطرودة بفعل فاعل، وليست بالطبع من مستوى أو مقام مليارديرات المصادفات السعيدة. *** الدكتورة ناهلة اتفقت معى فى توصيف الواقع الاقتصادى، لكنها أرجعت المشكلة إلى تقاعس رأس المال الصغير، نظراً لكثير من الأمراض الاجتماعية والموروثات الثقافية المتأصلة فى عدم احترام قيمة العمل. بصفتها العلمية تناقش د.ناهلة فى رسالتها المشكلة الاقتصادية بوصفها مرضاً: «تشخيص المرض يبدأه الطبيب، بالسؤال التقليدى: مم تشكو»؟ كذلك فإن حل أية مشكلة يبدأ بالتعريف السليم. هنا اسأل: هل نستطيع أن نتفق على أن المشكلة اجتماعية، ليست اقتصادية ولا سياسية، فى المقام الأول، أقصد هل نتفق أن المجتمع، بصفة عامة، ضد قيم العمل الجاد بحكم عوامل كثيرة منها الموروث التاريخى لأولوية الكسب الريعى فى ثقافتنا الشعبية، والتى زكتها ظروف الاقتصاد النفطى حولنا. هل ننكر تأثير تشوهاتنا المجتمعية على أنماطنا الانتاجية؟ هل ننكر أننا فى وقت ما وافقنا(ولو ضمنيا) على أن تقايضنا الدولة على «صورة نقود» مقابل «صورة عمل» و»صورة شهادات» مقابل «صورة تعليم» و»صورة ديمقراطية» مقابل «صورة حرية».. إلخ؟ ليست هناك تنمية حقيقية بلا حرية، ولن تكون هنا حرية بلا ثمن». * * * أتفق مع د.ناهلة فى ضرورة الانتباه إلى العامل الاجتماعى، ومن الظلم لأنفسنا أن نتصور أن الفساد وحيد المصدر، فقد اعتدنا عدم الإتقان وعدم الصراحة، ومع ذلك ليست هناك طبائع ثابتة للمجتمعات، وهذه التواطؤات على «تمثيل الأدوار» بدأتها الحكومة وفرضتها قانوناً موازياً ومعطلاً للقانون، ونحن لم نتوقف عن إدانة هذا السلوك الذى لا يخدم إلا بقاء النظام، بصرف النظر عن مستقبل البلاد، يستوى فى ذلك التواطؤ حول الأجر الضعيف وغياب العمل، مع التواطؤ الدينى نفاقاً من النظام للأغلبية، مع التواطؤ العلمى بتوفير وهم العلم لأكبر عدد من طلابه. وما نحتاجه الآن هو تفكيك هذا التواطؤ من خلال خلق وعى اقتصادى ينبه الذين تعرضوا للظلم، بالإكراه على الهجرة، إلى ضرورة مقاومة الظلم الثانى المتمثل فى طرد أموالهم من السوق. وهذا يحتاج إلى جهد من الصفوة المثقفة ونظرة جديدة للعمل والنضال السياسى، تضع نشر الوعى الاقتصادى بين أولوياتها. وهذا يشمل توعية الأغلبية بضرورة رفض الاستغلال، ومقاطعة السلع المبالغ فى أسعارها، وتوعية أصحاب الأموال الصغيرة بالطرق الأفضل لاستثمار أموالهم بأنفسهم. ولنتفق أن المجتمع لم يكن أقل مرضاً، عندما أسس طلعت حرب بنك مصر، واحتضنه صغار ملاك الأرض الزراعية. ولكن أصحاب المصلحة فى استمرار إقصاء أموال المصريين من المنظومة الاقتصادية أصبحوا الآن أشرس من سلطات الاحتلال الإنجليزى. وهذا لا يدعونا إلى اليأس، بل إلى مزيد من النقاش.