قبل شهور، فى عزّ الشتاء، دخلتْ قِطةٌ رماديةٌ خِلسةً من البلكون، واستقرتْ فى بيتى. اكتشفتُها فى الصباح وقد اختارتْ أحدَ الأسِرَّة الشاغرة ونامتْ، بعدما دسّتْ رأسَها فى وسائده طمعًا فى بعض دفء من برد يناير القارس. فرِحتُ بها. وعلى مدار أيامٍ حاولتُ استمالتها دون جدوى. هى تحبُّ المُقام عندى، بدليل أننى تركتُ لها باب الشرفة مُشرعًا ورفضتِ الخروج. أضعُ لها اللبنَ فى الصباح، وقطعةَ سمكٍ عند الظهر، و»أبَسْبِسُ» لها لكى تأتى، لكنها تنظرُ لى فى ذُعر ولا تقربُ الطعامَ حتى أبتعد. وبعدما تطمئنُ أننى جلستُ إلى مكتبى، وانشغلتُ عنها، تَقْرَبُ الصحنَ، وتأكل. أرقُبُها بطرفٍ خفىّ فترتجفُ أذناها حين تلتقى عيوننا. تحدّقُ فى عينىّ طويلا بنظرة تقفُ بين التساؤل والحيرة والشكِّ، وقليل من الامتنان. لكنها أبدًا لا تستجيبُ لمحاولاتى الاقترابَ منها لتدليلها والمسح على شعرها. أظنُّها تريدُ أن تحبنى وتطمئن لى، لكنَّ عهدًا طويلاً لها فى الشوارع بين مطاردات المارّة وسخافاتهم وزجْرهم لابد أورثَها انعدامَ ثقةٍ فى بنى البشر بمجملهم. غيرَ مُفرِّقةٍ بين مُحبٍّ القططَ وكارهٍ لها. القطةُ البيضاءُ التى نربيّها لا تخاف. تتمسح بقدمى وأنا أتجوّل فى البيت، تشاكسُ ذيلَ ثوبى وتثبُ فوق المكتب مُطوِّحَةً الأقلامَ دون خوفٍ من عقاب. لا تعبأ سوى بالاستمتاع بأشعة الشمس فى الصباح، ووجبةٍ جيدة توقنُ أنْ ستنالها كلَّ يوم، وفى المساء تقفزُ فوق سريرى، وحين آتى تُفسحُ لى ببعض مساحة. لا يغريها التليفزيونُ الذى يثيرُ القطةَ الرماديةَ جدًّا، فتكمنُ له تحت الأريكة وتنظر فى دهشة ووجل، ذيلُها يهتزُّ وأذناها منتصبتان فى تحفّز. أثارتنى الفروقُ فى السلوكيات بين القطتين. ولا أدرى لماذا ذكرتنى القطّةُ الرمادية بالمواطن المصرىّ فى شعوره نحو جهاز الشرطة. المواطنُ البسيط العادى «اللى مالوش ضهر». فيما القطةُ البيضاءُ هى المواطنُ «المسنود» المطمئنُ إلى مُتكأٍ يحمى ظهرَه. كلُّنا قطةٌ رمادية! أصبحنا نخافُ رجالَ الأمن ولو كانوا طيبين. وبسبب مِراسِنا الطويل مع بطش بعضهم، بِتنا نخافُ «الكلَّ» وليس ذلك «البعض»! مفارقةٌ مُحزِنة، أن يغدو جهاز «الأمن»، مصدرَ «فزعٍ». جولةٌ واحدة فى شوارع القاهرة، أو أقسام بوليسها، تكفيكَ لتلمح هذا الفزع الذى بات يملأ قلوبَ المواطنين من رجالات الشرطة، بصرف النظر عن الرُّتبة وعدد النجوم والنسور والسيوف، بل- للمفارقة أيضًا- يزداد الفزعُ كلما صَغُرتِ الرُّتبة والمقام. ربما لأن زهوةَ السلطان وشهوةَ التحكّم فى خلق الله تكون فى أوْجها فى البدايات. حينما يتخرّج طالبُ الشرطة فى الكلية، فيحاول أن يأخذ بثأره من المجتمع كله دفعةً واحدة. تخفُّ وطأةُ هذه المشاعر السلبية كلما تقدم الضابط فى مدارج الترقيات، فتهدأ النفسُ وتتزنُ الأمور. فرُبَّ لواءٍ أكثر تواضعًا ورُقيًّا فى تعامله من ملازم أو أمين شرطة يتعامل مع المواطنين، أبرياءَ ومتهمين، بصَلفٍ وقسوة، لم أفهم يوما مبررها. إحدى أجمل الرسائل التى وردت فى فيلم «حين ميسرة»، حينما سَبَّ الضابطُ أحدَ المتهمين بأمّه، فقال له المتهم: «لا يا باشا، إنتَ ليك عليا أحترمك، إن كنت قاعد أقوم لك، وإن كان فى إيدى سيجارة أرميها، لكن أمى مالكش دعوة بيها!»، هكذا رفض المواطنُ المصرى البسيطُ الجميلُ، «العارفُ حقَّّه» أن يكون قطًِّا رماديًّا. تحيةً له. [email protected]