الأشياء الجميلة وحدها تستحق أن نبكيها كثيراً حين تموت.. ولأنها كذلك، فهى لا تموت إلا إذا قررنا نحن.. أو هى - بمعنى آخر - تحتاج دائماً إلى قرار مرفق به صيغة تنفيذية: قررنا نحن أعداء النجاح وعشاق القبح أن نقضى إلى غير رجعة على هذا الشىء الجميل.. قررنا إغلاق تلك النافذة لتختنق حياة الناس.. باختصار: قررنا تعيين هذا الشخص على رأس هذا «الشىء الجميل» كى ينفذ قرار الإعدام! أتحدث عن «روزاليوسف» التى اتخذ النظام الحاكم قراراً حاسماً بالقضاء عليها إلى الأبد.. أتحدث عن التاريخ الناصع لواحدة من أبرز مدارس الصحافة فى العالم العربى.. عن لواء التنوير فى مصر.. عن المجلة التى خاضت أشرس المعارك فى مواجهة قوى الظلام، ودخلت صدامات ومواجهات مع الحكومات المصرية المتعاقبة، بدءاً بالأسلحة الفاسدة، مروراً بمعركة «القطط السمان» وقضايا الفساد الكبرى، وانتهاء بمواجهة فكر الإرهاب والتطرف! أتحدث باكياً عن مبنى عتيق فى شارع قصر العينى، كنا نمر عليه صغاراً فتسيطر علينا حالة إجلال وإكبار، تماماً مثل «الأهرام» و«أخبار اليوم».. أتحدث متأسياً، ومعتذراً، ومذنباً فى مواجهة العظام الذين سكنوا «روزاليوسف»: محمد التابعى.. إحسان عبدالقدوس.. أحمد بهاء الدين.. صلاح حافظ.. كامل زهيرى.. عبدالرحمن الشرقاوى.. فتحى غانم.. صلاح جاهين.. وأحمد حمروش.. هل تبكون مثلى حين تتذكرون هذه الأسماء التى صنعت تاريخ الصحافة والثقافة والفكر من مبنى «روزاليوسف».. هل تذرفون الدمع مثلى لما آلت إليه هذه المؤسسة، بعد أن رحل رموزها الكبار، وهجرها أكفأ أبنائها من الأجيال الحالية.. هل تعرفون أن آخر عصورها الذهبية كان بإمضاء عادل حمودة وزملاء مبدعين وصلوا بتوزيع المجلة إلى 150 ألف نسخة أسبوعياً.. وهل تعرفون أنها الآن توزع 8 آلاف نسخة، نصفها اشتراكات حكومية! «روزاليوسف» تحتضر.. والقرار أصدرته الحكومة، لتتخلص من صداعها.. المدرسة لاتزال موجودة، ولكن «الناظر» يطبق على أنفاس مبدعيها.. تضم تحت جوانحها مواهب قادرة على انتشالها من «الموت البطىء»، ولكن الدولة تريدها هكذا: جثمان بلا دماء.. وأنفاس تخرج وربما لا تعود.. «روزاليوسف» لايزال بها كرم جبر، ولكنه رئيس مجلس الإدارة.. والعلة الآن فى الصحافة، وليست فى الإدارة.. أو هى فى «سياسة الصحافة»، أى فى تكليف مباشر لرئيس تحريرها ب«أن افعل ما تريد فى مجلة العمالقة.. مجلة الليبرالية والوعى الوطنى.. انطلق.. وفى انطلاقك موت مضمون لهذه المؤسسة التى كتب فيها: عباس العقاد، مصطفى محمود، يوسف إدريس، محمود أمين العالم، محمد عودة، حسن فؤاد، صلاح عبدالصبور، مفيد فوزى، صبرى موسى، حجازى، رجاء النقاش، أحمد عباس صالح، ومجدى مهنا»! انطلق يا رئيس التحرير بالقبح، وسيتركها لك كل عشاق الجمال، سيرحل محمود سعد ووائل الإبراشى وعمرو سليم وإبراهيم عيسى وإيهاب الزلاقى، وستكتم على أنفاس أبناء جيلك الموهوبين محمد هانى وأسامة سلامة وإبراهيم خليل.. وآخرين، وستنهى أسطورة جميلة اسمها «روزاليوسف».. ستصل بها إلى أسفل سافلين، وستراقب الحكومة هذا الانهيار بصمت مريب، وفى الغرف المغلقة سيأخذ المسؤولون الكبار بعضهم البعض بالأحضان، لأنهم نجحوا فى القضاء على المجلة التى كانت تقف على أقصى أقصى يسار النظام الحاكم، دون جهد كبير، فقط اختاروا لها الأسوأ والأفشل.. تماماً مثلما أسقطت أمريكا الاتحاد السوفيتى.. هكذا كانت الفكرة المصرية: اختاروا الأسوأ.. وانسوه.. واتركوه يعمل فى صمت.. وسيأتى لكم يوماً ما بعظام ورفات الضحية.. وبضحكة باردة سيقول: «إيه رأيكم.. خلصت على روزاليوسف»! [email protected]