المستخبى وراء نجاح هالة والمستخبى

أكبر بئر نفط فى مصر هو الدراما المصرية، منجم إبداع متجدد، كان من المفروض أن نستغل كنوزه المتجددة واللانهائية، وللأسف عانت هذه الدراما من نضوب وجدب فى السنوات الأخيرة لأسباب متعددة من بينها المط والتطويل لزوم الثلاثين والأربعين حلقة، والرضوخ لرغبات نجم العمل وشروطه التى غالباً ما تخاصم المنطق،
ولذلك فرحت بمسلسل «هالة والمستخبى» الذى عاد لفضيلة الخمستاشر حلقة والتى كانت قد انقرضت من مسلسلاتنا، فصار الإيقاع سريعاً، والأحداث لاهثة، والأداء صادقاً، ونجوم العمل وعلى رأسهم ليلى علوى يشكلون أنفسهم وملابسهم وتمثيلهم وماكياجهم لصالح العمل وليس العكس، فأحسسنا بالفعل أننا فى حارة مصرية يسكنها فعلاً من هم على هامش الحياة المعجونين بأزمات هذا الوطن المطحون.
جذب نظرى فى هذا العمل الأداء العبقرى لباسم سمرة، أداء طبيعى فطرى بدون افتعال يجعلك مقتنعاً بأن هذا الرجل اللا مبالى من الممكن جداً أن يبيع عياله، ومنذ أن شاهدت باسم سمره فى فيلم يسرى نصرالله التسجيلى الذى عرض فى مهرجان الإسماعيلية منذ سنوات راهنت على تلقائيته وعذوبة أدائه وسلاسة انفعالاته،
وأعتقد أننى فى هذا المسلسل كسبت الرهان، تعامل باسم مع هذا الدور المركب بخفة دم لا استظراف، وبتقمص لا صراخ، وابتعد عن النمطية فى تجسيد دور مدمن المخدرات، وأعتقد أنه نحت من حجر الفن السحرى نموذجاً وبصمة ستعيش زمناً طويلاً فى ذاكرة المشاهد.
ليلى علوى نجمة ذكية ناضجة، تعشق فن الدراما، تتنازل كثيراً عن مواصفات الجمال التقليدية لصالح العمل، فالعمل الفنى لابد أن يكون هو البطل وليس النجم، فنجدها أم مصرية حقيقية من قلب العشوائيات، من لحم ودم وأعصاب وليست دمية سابقة التجهيز مسطحة الأداء، وفى هذا المسلسل أقنعتنا بأنها هالة الملتاعة من مأساة بيع أطفالها، أمسكت بخيوط الشخصية ببراعة، ونقلت لنا إحساس المأساة دون ندب ولطم وسرادقات عزاء تليفزيونية.
الكتابة فيها حس السينما وإيقاع الفن السابع، نفذ فيها حازم الحديدى مقولة يحيى حقى العبقرية بأن القصة القصيرة الجيدة هى التى تبدأ بمقدمة طويلة محذوفة! فكان المحذوف الزائد هو سر التألق، ولذلك لم يعان السيناريو من ترهل المسلسلات طويلة التيلة، واحتفظت كل حلقة بالسخونة والطزاجة والبكارة وكأننا أمام خمسة عشر فيلماً قصيراً!!،
أما المخرجة مريم أبوعوف فقد احتفظت فى كل لقطة بسر الفن المقدس وهو الجمال، فلا يوجد فن إلا واقترن بالجمال، فالحارة القبيحة قدمت من خلال كادرات جميلة، ومشاهد القاهرة التسجيلية المتناثرة وسط المسلسل منحتها صورة مريم عمقاً وتألقاً وجمالاً فنياً بديعاً حتى ولو كانت اللقطات داخل عشوائيات.
لابد للدراما المصرية أن تستعيد تألقها وإيقاعها السريع وتساعدنا على التغلب على إيقاع حياتنا المتراخى الكسول، وأعتقد أن مسلسل «هالة والمستخبى» كسر تابو الثلاثين حلقة وأيضاً قدم لنا وجبة رمضانية شهية من الفن الراقى الجميل.