هل لوحدانية الله سلوك يجرى فى العروق مادياً ويغذى النفس معنوياً؟ هل لاستقبال الرسائل السماوية تاريخ يتسلسل بين العشيرة؟ ألف هل تشير إلى اختيار الله سبحانه وتعالى لمحمد بن عبدالله ليكمل مسيرة الأنبياء ويغير من علاقات البشر ويؤكد علاقتهم بالواحد الأحد.. ويصل بحيرتهم عن الخالق إلى اليقين بوحدانيته تلك الدلالات التى ساقها سبحانه فى كتابه الجامع المانع فى سورة النمل حينما يتساءل فى جرس شديد الجاذبية وكأنه موسيقى لغوية ساحرة تنتهى بتساؤل.. أإله مع الله؟ حيث يشرح جل جلاله للذين يتساءلون السؤال المشروع هل خلق الله وحده كل هذا؟ (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون) ثم يقول (أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسى وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) ثم يقول (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون) ثم يتواصل فى الشرح (أمن يهديكم فى ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدى رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون) ثم يترفق بالعقل البشرى ويزيد فى الشرح (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) آيات تثبت أن الله سبحانه وتعالى خلقنا، ويعرف الضعف البشرى فى التساؤل بوحدانية الله (آيات 60، 61، 62، 63، 64 من سورة النمل.. تلك الآيات الشديدة المقدرة على الإقناع بوحدانيته والشديدة الإثبات على ضعف النفس البشرية أمام القدرات الهائلة للخالق، وأن الإنسان لابد أن يفكر قبل استقرار الإيمان، وأن الإنسان لابد أن يمر بمرحلة التفكير حتى يستقر إيمانه، هذه الآيات القوية تثبت تسلسل الإيمان فى البشر. وحينما صاح عبدالمطلب جد النبى، صلى الله عليه وسلم، وهو يرد على اعتراض أهل مكة على أخذه جماله إلى الصحراء بعيداً عن هجوم أفيال أبرهة على الكعبة حينما قالوا له «أنت حامى البيت.. هل تأخذ جمالك وتترك البيت وحده فى مواجهة الأفيال؟» فصاح فيهم! (للبيت رب يحميه) إذن لم يكن عبدالمطلب يؤمن بالأصنام وبأن لها مقدرة الحماية ولكنه كان يؤمن بالرب الحامى، الذى لا يراه أحد.. قول جامع مانع لما يؤمن به عبدالمطلب الذى يصل جده إلى إبراهيم عليه السلام. هذا الجد الذى وصلت سيرته إلى أسماع أهل الروم، حينما كان أحد تجار العرب فى تجارته وتساءل أحد أحبار اليهود فى ربوع الشام عن الدين الجديد ومن الذى أتى به. فقال الأعرابى: جاء به فتى قرشى يدعى محمد بن عبدالله.. فقال الجد اليهودى: هل هو ابن عبدالمطلب؟ فأجاب الرجل بالإيجاب فقال الحبر إذن فهو النبى القادم. ويقال إن هذا الأعرابى عمرو بن العاص قبل إسلامه، وكان عبدالمطلب شديد الحرص على ثروته، حيث كانت لقريش الإمرة السياسية بسدانة الكعبة وحماية الحجيج، الذين يأتون من أنحاء الجزيرة ليحجوا ويطوفوا بالبيت العتيق فكان يستمد قوته من حماية أصنامهم ويعتمد فى اقتصاده على سقايتهم واستضافتهم وعقد الأسواق لهم. فكانت له القوة السياسية والقوة الاقتصادية ولم يكن أهل مكة كفاراً، بل هو لفظ استعمل وقتها ولكن حقيقة أهل مكة أنهم دافعوا عن عقيدتهم دفاع الجندى عن وطنه، وأهل مكة من أذكى أذكياء الأرض، حيث إنهم عارضوا الدين الجديد محاربة المحاربين عن كيان دولتهم المدينة المحصنة بالجبال ذات الموقع العبقرى، التى تضع فيها القبائل أصنامها ولهم الإمرة عليهم. لم يكن أصحاب مكة يعرفون أنها ستظل مرفوعة اللواء على شبه الجزيرة، لم يصلهم من خبر عن الحج أو عن تغيير القبلة، لأن كل هذه الآيات نزلت فى المدينة، وكان الفتح بعدها حيث أصبحت الكعبة لها ذات الطواف القديم، ولكن لله الأحد وليس للأصنام التى كانت تمثل القبائل داخلها وخارجها لذلك كانت مهمة الرسول فى المدينة جمع القبائل وإرسال. الرسائل لم يعلن محمد نفسه نبياً رغم دلائل النبوة التى ظهرت عليه.. لم يعلنها إلا حينما اعتكف سنوات وسنوات فى غار حراء.. ولابد لنا أن نتأمل العلاقة بين الجد الذى صاح صيحته للبيت رب يحميه والحفيد الذى تربى فى رعاية هذا الجد ووصلته جينات هذا الجد وأصبح فتى قريش الأمين وأصبح يتمه لأبيه وهو جنين مازال فى رحم أمه ثم يتمه لأمه وهو فى السادسة من العمر يمثل تحدياً لوجود قوى فى مجتمعه وكان تحديه بقوة الخالق. ولننظر لعلاقة الأب عبدالمطلب بابنه عبدالله ونلاحظ اسمه، تلك العلاقة التى جعلته يضحى بمائة جمل وكانت الجمال وقتها رمزاً لقوة صاحبها فى العدد، ولكنه ضحى بها حتى لا يذبح ابنه تماماً كما فعل الجد إبراهيم مع ابنه إسماعيل (فى المكان ذاته.. وكان التاريخ يضع عبدالمطلب فى نفس اختبار إبراهيم عليه السلام وها قد وصلت الجينات.. جينات التوحيد حتى تميز محمد بين أهل مكة.. وتنامى تأمله فى خالقه وتنامى فى كبريائه وأمانته حتى لقب بالأمين.. ولم تكن مصادفة أن يضع بيده الحجر الأسود بعد ذكائه بوضع عباءته ثم يمسك بكل طرف منها رؤساء القبائل ثم يأخذ الحجر بيديه ليضعه فى مكانه من البناء المقدس. وهكذا تتواصل الجينات ويختار الله وسيلته ليتم نعمته علينا ويصل الإسلام إلينا بكل ما فيه من رقى للبشر ودستور للحياة.. ولكنهم لا يعلمون.