شقيقى الصغير.. صغير، نحيل العود، طيب العينين واسمه مسعود! أحبه وأشعر بحبه لى لأنه يخصنى دون أفراد العائلة بالجلوس معه لنحكى!.. من عاداته بعد مجيئه من مدرسته الابتدائية أن يقفل عليه باب الحجرة، ثم يخرج علبة ألوانه وورقه الأبيض العريض ليبدأ الرسم!.. قد يرسم وردا أحمر أو حماما يطير فى السماء، وقد يرسم الأهرامات أو علما يرفرف على سارية طويلة، وقد يرسم.. وقد يرسم.. لكنه يكثر دوماً من رسم مياه صافية، يمتد على جانبيها نخيل مثمر وأشجار خضراء ويكتب أعلى الورقة - بخط كبير - (النيل)! أفرح كثيرا عندما يعرض علىّ رسومه، وأشجعه بكلمات أو بقطعة نقود صغيرة حسبما تكون الحال، لكنه يقطب حاجبيه الرفيعين ويقول: (أحب الرسم، وأكره الحساب.. أكره الحساب جدا!). أبتسم ولا أعلق! شقيقى الصغير مسعود، يفرح عندما يرى قصصى منشورة فى الجرائد والمجلات، ويوم يحدث هذا ينظر إلىّ وعيناه تلمعان.. يتأمل اسمى على الصفحة ويمرر عليه أنامله بإعجاب، وبعد لحظات شرود يفيق ليسأل: (هل تكتب قصصاً عن النيل؟).. يباغتنى سؤاله.. أجيب: (أحيانا!).. يقول فى خجل: (لكنى لا أفهم شيئا من قصصك!).. أضحك فينطلق، يغيب عنى دقائق ثم يقبل حاملا فى يده صورة جمال عبدالناصر.. تتملكنى الدهشة حين يقرفص بجوارى ويطلب بإلحاح: (إحكِ لى عن عبدالناصر!) اليوم – فى الصباح الباكر- جاءنى مهموما.. سألته عن السبب، قال: (أحبُ النيل، والولد زميلى يقول إنهم سوف يسرقونه!!).. قلت فى عجب: (يسرقون ماذا؟!).. هتف: النيل!.. ربتُ على كتفيه وقلت مطيبا خاطره وبلهجة الواثق: (لن يجرؤ أحدٌ على سرقة النيل!).. نظر إلىّ بشك، وخرج بعد أن سلمنى لحيرة! آخر اليوم كنت أنتظر رجوعه من المدرسة.. عندما رأيته قرأت فى وجهه حزنا، أخذته من يده ودعكت خديه مداعبا، لم يستجب لى، سألته: (مالك؟).. لم يرد، تخللت شعره بأصابعى وكررت سؤالى فأشاح بوجهه وقال بتردد: (مدرس الحساب خصم منى عشر درجات!).. قلت: (لماذا؟!).. سكت برهة ثم أجاب بصوت متهدج: (لأنى لا أفرق بين المقسوم والمقسوم عليه.. وأسأل عن أشياء بعيدة عن منهج الحساب و..!).. عاود سكوته وأطرق إلى الأرض.. شجعته، نظر فى عينى ثم قال: ( ولأن المدرس ضبطنى أثناء الحصة أرسم.. كنت أرسم للنيل أسوارا عالية!). رحم الله الشاعر الأستاذ محسن الخياط، الذى نشر لى هذه القصة القصيرة فى (الجمهورية) مطلع عام 1988.. آنذاك كنا نعيش ظروفا مشابهة لتلك التى تحيط حاليا بمستقبل حصتنا من مياه النيل.. كان القلق يتزايد بسبب تكهنات عن تعاون بين إثيوبيا وإسرائيل فى مشروعات تتعلق بمياه النهر الخالد، وكنا من فرط خوفنا ونتيجة تعتيم حكومى على القضية، نعتقد أن إسرائيل ستتمكن من (التفاهم) مع الحكومتين الإثيوبية والمصرية للحصول على حصة من مياه النيل.. غير أن المسؤولين فى ذلك الحين خرجوا علينا بتصريحات فهمنا منها أن قلقنا فى غير محله، وأن الأمور ستبقى على ما يرام إلى أبد الأبدين!.. بعد واحد وعشرين عاما يتكرر سيناريو مماثل.. الفرق هذه المرة أن مصدر القلق ليس دولة واحدة، بل دول منبع النيل جميعا: إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وبوروندى وكينيا والكونغو!.. تتحدثُ اليوم تلك الدول بلغة واحدة، وتتبنى موقفا مشتركا ضد اتفاقية قديمة تمنح مصر والسودان نصيب الأسد من مياه النيل!.. ركنت الحكومات المصرية المتعاقبة على تلك الاتفاقية، وأسقطت من حساباتها مد جسور التعاون مع دول المنبع.. لنجد أنفسنا اليوم فى مواجهة واقع خطير، لن تفلح معه أريحيةُ أصحاب التصريحات المطمئنة، التى تبدو أقل نفعا من الأسوار العالية، التى كان يرسمها شقيقى مسعود لحماية النيل على الورق.. قبل واحد وعشرين عاما! [email protected]