«إننى واحد من أبناء ثورة يوليو، من هنا فأنا مرتبط بهذه الثورة بالعمر والحلم والأمل، والثورة بمقاييس العمر كانت كل عمرنا، وبمقاييس الحلم كانت أكبر أحلامنا، وبمقاييس الألم هى أعمق جراحنا، وحينما أتناول قضية تاريخ الثورة فهى دعوة لإنقاذ العمر وما بقى من أطلال الحلم، حتى وإن كان فى ذلك الكثير من الألم». كانت تلك الكلمات أشبه بالتفسير الذى وضعه الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة حينما قرر أن يجمع كل ما كتبه فى مقالاته عن الثورة فى كتاب فكان «من يكتب تاريخ ثورة يوليو.. القضية والشهادات»، والذى يقول فيه: «ماذا تفعل إذا وجدت أمامك قضية بلا شهود، ومتهما بلا ادعاء.. ومنصة بلا قاض، وماذا ستفعل إذا تضاربت أمامك أقوال الشهود، وقفز أحد المتهمين من قفص العدالة، وجلس فوق منصة القضاء وجعل نفسه قاضيا واختلطت الأدوار فى المحكمة فلم يعد القضاة قضاة، ولا المتهمون متهمين، وتداخلت الصور والأدوار». والاختلافات تطرح نفسها وبقوة بين أبرز رموزها،وهذا ما اتضح فى الشهادة التى أدلى بها زكريا محيى الدين، قال: «لم يكن لمحمد نجيب دور أساسى فى الثورة، لقد جئنا به كواجهة لهذه الثورة، لأنه كان من الصعب علينا وجميعنا من الرتب العسكرية الصغيرة أن نظهر أمام الناس دون رجل كبير فى السن والرتبة. وفى الأعوام الأولى من الثورة كنا نناقش القرارات قبل إصدارها ونقوم بالتصويت عليها، ولكن بعد ذلك اختفى مبدأ التصويت وأصبح القرار فى النهاية لشخص واحد حتى، ولو اختلفنا حول هذا القرار.. أما عن الثورة فلا أستطيع أن أتجاهل أو أنكر تجاوزاتها، ولكن الظروف فرضت علينا الكثير منها». وفسر «محيى الدين» رفضه أن يصبح رئيسا للجمهورية بعد إعلان الرئيس جمال عبد الناصر التنحى عقب النكسة قائلا: «لم يخبرنى عبدالناصر بهذا القرار قبل أن يعلنه أمام الشعب، وكان من الصعب جدا أن أصبح رئيسا للجمهورية وأتحمل أخطاء لم أشارك فيها من قريب أو بعيد» . وجاءت شهادة حسين الشافعى، أحد رموز ثورة يوليو ونائب رئيس الجمهورية فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لتؤكد أنه لا أحد يستطيع أن ينكر دور محمد نجيب حينما وافق على أن يكون فى صدارة هذه الثورة، إلا أنه لا ينبغى المبالغة فى أهمية هذا الدور، فقد اختلفنا معه فى مناسبات كثيرة، وعن أول شرخ أصاب مجلس قيادة الثورة يقول «الشافعى»: جاء الخلاف بيننا بعد رحيل محمد نجيب من السلطة مباشرة.. اتفقنا على رحيله، ثم اختلفنا تماما بعد رحيله، ولم يكن الخلاف هذه المرة بسبب نجيب، ولكن كان بسبب ترقية عبدالحكيم عامر إلى رتبة لواء متجاوزا بذلك كل أعضاء مجلس قيادة الثورة، فهذا القرار هدد بعنف الموقف فى الجيش الذى شهد وقتها حالات من التمرد، كان أعنفها وأقساها ما حدث فى سلاح الفرسان، ويومها ذهب جمال عبدالناصر بنفسه والتقى الضباط المتمردين، ودار بينه وبينهم حوار استمر حتى الساعة الثالثة صباحا». ويبدو أن الاختلاف بين رموز الثورة لم يقف عند دور محمد نجيب، ولكنه ذهب إلى تفاصيل أخرى كثيرة، فاستنكر محمود عبد اللطيف حجازى، أحد الضباط الأحرار، وصف «الشافعى» للضباط الذين التقاهم عبدالناصر بالمتمردين، نافيا أن يكون عبدالحكيم عامر سبب الاجتماع الذى دار بين عبد الناصر والضباط الأحرار، وأطلق عليه «الميس الأخضر». وقال حجازى: «كان اجتماعا للمطالبة بعودة الدستور وطوال الاجتماع لم يصدر من أحدنا لفظ خارج، فكلنا يعلم أن لعبدالناصر سطوة شخصية وتأثيرا شديدا وحضورا لا ينكر، وإذا بالضباط الذين كانوا يشتعلون حماسا جلسوا وكأنهم يتلقون محاضرة من أحد الأساتذة، وكان هذا هو الجو الذى ينتظره عبدالناصر، إلا أن ذلك لم ينطل علينا، فقمت وقلت له (يا فندم إن كنت فى حاجة لهذا الحشد من الضباط الذين حضروا معك وأنت محتاج لهم لحمايتك فيمكننا تقديم الضيافة واعتبار أن الاجتماع انتهى أما إن كنت حريصا على مناقشتنا ومعرفة مطالبنا فنرجو صرفهم حتى نتحدث معك بكامل حريتنا) فاشتعل حماس الضباط وتبادلوا الكلمات الجارحة ولكن عبدالناصر رفع يده فسكت الجميع وقال «شوفوا لهم ميس تانى يقعدوا فيه» واستمر الاجتماع حتى الثالثة صباحا. وأضاف: عند نهاية الاجتماع ولما لم يجد منا غير الإصرار على الدستور، قال «طيب والله بأفوت على ماهر الصبح وأنا مكلفه هو أو السنهورى بلجنة الدستور أستعجلهم» فقال له أحمد المصرى «يا فندم الدستور جاهز ولكن لم نجد منكم رغبة.. فلو سيادتك كلمتهم الدستور هيكون عندك فى أقل من أسبوع». وفى الخامسة صباح يوم 27 فبراير 1954 عاد عبدالناصر ومعه خالد محيى الدين وطلب الاجتماع فى مكان بعيد عن الصف والعساكر، وبدأ قوله «المجلس اتخذ القرارات التالية ولن يتراجع عنها وكانت القرارات التالية: عودة محمد نجيب رئيسًا لجمهورية برلمانية على أن يكون خالد محيى الدين رئيسا للحكومة، وخروج أعضاء الثورة على المعاش» قلت وغيرى إن هذا «بلف وخدعة»، فقال: «رغم ثقتى فيكم فإن ثقتى فى زملائى أعضاء المجلس أكبر، وأى بلد يُحكم عسكريا يلزمه قرنان ليعود للحكم المدنى، وما تلى ذلك من أحداث لن أخوض فيه فقد كان مهزلة بكل المقاييس». أحداث ما بعد تلك القرارات يرويها محمد أبواليسر الأنصارى، أحد الضباط الأحرار، قائلا: كان للقرارات «وقع الصاعقة» علينا، فهل يعنى هذا أن الثورة قررت القضاء على نفسها بنفسها؟ وعندما اندفعنا داخل غرفة الاجتماع تعالى الصياح والاحتجاج، الكل يتكلم والكل يعترض.. وعبد الناصر يحاول السيطرة علينا دون جدوى. وفى عصبية نزع عبدالحكيم عامر علامات رتبته العسكرية من على كتفيه صائحا «أنا لن أقبل أن أكون قائدا عاما لقوات داخلة مع بعض حرب أهلية»، وكان ذلك ردا على ما توعد به ضباط المدفعية بمقاومة سلاح الفرسان بالقوة، وحملنا صلاح نصر مسؤولية تولى القيادة وفرض رأينا بالقوة على سلاح الفرسان وتم توزيع المهمات. تولى صلاح نصر توجيه ضباط المشاة، وكان واجبى التوجه إلى إدارة المدفعية لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة أى تحركات للمدرعات. وأضاف: اتصلت بجميع وحدات المدفعية بالقاهرة والإسكندرية وشرحت لهم الموقف وحذرتهم من تنفيذ أى أوامر صادرة من شخص غيرى، واتصل بى طلعت خيرى وأخبرنى بأن محمد نجيب فى طريقه إلى تحت الحراسة للتحفظ عليه بمعرفتى، وعندما وصل رافقته إلى مكتب مدير المدفعية، وبعدها غادر محمد نجيب الإدارة ولكنه قبل أن يغادر رمقنى بنظرة طويلة تقول: لماذا؟ وكدت أجيبه: اسأل نفسك، واستقرت الأمور بعدها، وعاد مجلس الثورة لمباشرة سلطاته، وحددت إقامة محمد نجيب، وزار وحدات المدفعية جمال عبدالناصر للشكر والتقدير على «وقفة مارس» كما سماها.