يدى مكسورة، مشنوقة فى الجبس، عاجزة عن فعل عشرات الأشياء. إشعال الثقاب معجزة، ربط الحزام شعوذة، الأكل بيدى اليسرى كارثة. لماذا يا «مراقيا» تصنعين هذا برجل أحبك؟ عشرون عاما وأنا أذهب إلى هناك، تقطع السيارة الطريق فى ساعتين ونصف، تتلاحق الأشجار المنغمسة فى عشق الماء، عند الأفق طائر يسابق السيارة ويغنى، من بعيد يلوح البحر كخط أزرق، كقصة عشق لا تنتهى، الموج يكتب حكايته والرمل يمحوها بسرعة. مراقيا: المصيف الهادئ الذى أقصده كل عام، بحره الأزرق جواهر سائلة، حدائق الزهور، أشجار الأرز، وبيوت متناثرة كأكواخ العاشقين!. يأسرنى الحب، يغمرنى الوجد، يستعمرنى الغرام. أحب كل شىء هناك: البيوت الحجرية، بساطة التكوين، كثافة المحتوى، طفولة الأشجار، ركوب الدراجات. البحر ينادينى بلغة سرية، الشمس تسقط فى الماء كمراهقة تقع فى الحب، والأزرق الحزين يغشى السماء تدريجيا، المصطافون يتسللون فى هدوء، وفى كل مرة أجدنى وحدى، أنا والبحر. والموج يردد كلمة واحدة، طويلة متموجة: الله..الله..الله. ما أجمل البدايات وأتعس النهايات! لم أكن مذنبا يا بحر حين ركبت الدراجة، ولا حين أوصيت الصبى الأسمر أن تكون فراملها سليمة، ولا حين وضعت «فيروز» فى أذنى، وشعاع الأصيل يغمرنى، وروائح البنفسج تهاجمنى عند منحنى الطريق. لم أكن مذنبا يا بحر حينما اشتقت لك، وقررت الذهاب إليك، ونزلت الطريق المنحدر فى طرفة عين. الانحدار سريع كأنه تل قديم، والدراجة تندفع كرصاصة، فيروز تصرخ فى أذنى: «حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتى»، وقدماى تبحثان عن فرامل لا وجود لها، هل هز الصبى الأسمر رأسه هزة الرضا أم هزة الإنكار؟ فيروز ابتلت بالمطر. وقانون الجاذبية يعمل بكفاءة، والاصطدام لا مفر منه، نيوتن قال شيئا عن تسارع العجلة ووزن الكتلة المتحركة لكنه لم ينصح بشىء وقت الارتطام! الدراجة تلتوى، السيارة تنبعج، وفى يدى اليمنى صواعق ألم، الناس يحركون شفاههم وفيروز تصرخ فى أذنى: «حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتى». ما أبعد الشقة بين الذهاب والإياب!. السيارة تطوى الطريق طيا، والليل هبط منذ ساعات، صديقى- أستاذ العظام- أصر ألا أفعل شيئا هناك، طالبا أن أعود فورا. قال إنه ينتظرنى فى غرفة العمليات. أضواء السيارات تتلاحق بغرابة، والهواء البارد يتسرب. ما أشعر به الآن ليس الألم، ولا حتى الفزع، إنه الدهشة. أنظر فى سرور إلى يدى الأخرى، تتحرك فى يسر، تعبر عما يدور بخاطرى. يد السائق رابضة على مقود السيارة. فما أعجب أن تكون لك يدان ولا تشعر بالألم، ولماذا تحاصرنا المعجزات ثم لا نشعر بها فى الوقت المناسب! أليس من الجائز أن يكون الكسر حلما، والرحلة حلما وحياتى بأسرها حلما! كنت سليما ولا أشعر برضا، معافى دون بهجة، لم أتوجه لخالقى بترنيمة شكر أو لحظة امتنان. كنت أحرك يدى طيلة الوقت ولا أعى حجم المعجزة. هل يعرف الصبى الأحمق كم أضاعنى وأوقف مشاريع رتبتها!! هل يعرف أننى الآن غادرت مراقيا، والسيارة تعود بى، وأم كلثوم تغنى «سهران لوحدى». كلنا (وحدنا) فى هذا العالم، جزر منفصلة فى عمق البحر، يغمرها المد وقت الحب، وينحسر لحظة الحقيقة. الكون اثنان لا ثالث لهما. أنا والله، أنت والله، هو والله، والباقى أشباح مزيفة ترتدى رؤوسا آدمية، تذهب وتجىء، تدّعى أنها قادرة على المنح والمنع، ثم تختفى وقت الموت. لم أشعر براحة إلا حين نزعت السماعة من أذنى وتركت فيروز تواجه مصيرها مع حبيب قاس. شعرت بزيف الحب وزيف الأغنية، بل وزيف الحياة بأسرها، والموت يأتى حين يأتى وأنت «سهران لوحدك». احلم، ارفع قامتك، اصنع نجاحك، انصب هامتك، اكبر فى عيون الناس. المؤكد أنك بعدها ستموت وحدك. والطريق الذى كنت أقطعه فى ساعتين ونصف لم ينته بعد أربع ساعات، وكل نصف ساعة نتوقف ساعة من أجل حوادث الطريق، نزيف الدم على الأسفلت المصرى. والسائق- حين عرف أنى أكتب فى الصحف- ناشدنى أن أكتب شيئا عن تلك القرية قبل «أبو حمص» والتى يندر أن يمر جوارها ولا يرى خمس سيارات معجونة فى بعضها ومحافظ البحيرة لا يصنع شيئا. أم كلثوم نامت، والأغنية انتهت، وصديقى الذى ينتظرنى قد تجمد مع طاقم التخدير. لم أكن «سهران لوحدى» إذن كما زعمت، الكون كله سهران معى فى انتظار المقدور.