فى العرض الأول لفيلم «غَزل البنات»، سألوا طه حسين عن رأيه فى الفيلم وأغنياته. فأبدى رضاءه وأشادَ بالأداء الرفيع لنجيب الريحانى وليلى مراد، على أن ما استوقفه كان أغنية «أبجد هوز/ حُطّى كلمُن/ شَكْل الأستاذ/ بئا مُنْسَجِمٌ»، فقال، عميدُ الأدب العربىّ: «المفروض تكون «بقا منسجمًا»! لأن «بقا»، بمعنى «أصبحَ»، تنصبُ ما بعدها، شأن «كان وأخواتها». وحتى إن كان تعليقُه محضَ مِزحةٍ من الأستاذ، لأنه يدركُ حُكمًا أن ذلك الخطأ مقصودٌ لضرورات القافية: «كلمُن - منسجمُن»، كما أنه لن يطالب بتطبيق قوانين الفُصحى على اللهجةِ الدارجة المحكية، إلا أن تلك الواقعةَ تحملُ دلالةً تقولُ إن اللغةَ العربية الفصحى بأجروميتها وصحيح نحوِها وصرفِها وبيانِها، حاضرةٌ بقوة فى ذهن الأستاذ الكبير، الذى إليه يعودُ الفضلُ فى تبسيط اللغة العربية وتحريرها من أثقالها المنفلوطية القديمة، وبلاغاتها وبديع زخارفها المُفرطة. وكلنا، نحن كتَّابَ مصر الراهنين، نتبعُ الآن مدرسةَ طه حسين اللغوية. لكن شابًّا فى بدايةِ مشواره الكتابىِّ اسمُه خيرى شلبى، سيغدو فى مقبل الأيام أحدَ رموزِنا السَّردية الشاهقة، استطاع أن يتماكر على الأستاذ طه حسين، الذى لا يسمحُ بالتهاونِ مع اللغة الفُصحى، حتى فى المِزاح.كان شلبى قد قرر أن يكتبَ رواية «الأيام» كمسلسل للإذاعة. ولابد، أدبيًّا وقانونيًّا، من موافقة كاتب العمل. ذهب إلى بيت الأستاذ بالزمالك. فرحّب الأستاذُ بالفكرة، شريطةَ أن يكون الحوارُ بين الشخوص فى المسلسل بالعربية الفصحى! وأُسقِطَ فى يدِ الروائىّ الشاب! هل يتكلمُ أبناءُ الصعيد المصرىّ بالفصحى، فى حياتهم اليومية؟ ولأنْ ليس ممكنًا أن يُساوَمَ الأستاذُ فى شرطه، وليس ممكنًا، كذلك، أن يتخلى الشابُّ عن حلمه؛ التجأ إلى دهاء الفنان والمصرىّ فى آن، كتب الحوار على النسق الذى يتَّسِقُ فصحًى ودارجةً فى آن! مثلا: «معى جوابٌ، أَحْلِفُ بالله لو شَافَهُ مخلوقٌ لَرُحْتُ فى داهية»، هكذا سيقرؤها خيرى شلبى على الأستاذ طه حسين، لانتزاع موافقته. بينما فى المسلسل سيقولها عبدالوارث عسر، بتسكين نهايات الكلمات، مثلما نحن فى دارجتنا المصرية اليومية، مع تلوين اللسان باللكنة الصعيدية. انتبه خيرى شلبى مبكرًا لمشكلة ازدواجية التعبير فى اللسان المصرى. حينما كان بعدُ صبيًّا صغيرًا فى بلدته. كان رجالُ القرية يلجأون إليه ليكتبَ لهم خطاباتهم إلى ذويهم. يُمْلون عليه الكلامَ بالدارجة، فيغافلهم ويكتبها بالفصحى! فلا يرضون عمّا كتبَ، ولا يرضى أن يكتب ما ينطقون. هنا تشكّل داخله سؤالٌ ضخم ٌحول «إشكالية التعبير». فراح يراقب ُوينصتُ إلى صوتِ العالم على نحوٍ أكثر حساسية. ليكتشف أن حولنا عشراتٍ من المعاجم والقواميس والألسن. فقاموسُ الحداد، مختلفٌ عن قاموس النجار، والقروى، والطفل، والكَوّاء، والساعى، والخبّاز، والخيّاط، إلخ. أنصتَ إلى كل من تلك المعاجم على حدة، وتعلَّمها، ثم أتقنها، ثم استنطقَ بها شخوصَ رواياته وقصصه. وهذه أحد أسرار عبقرية خيرى شلبى الحكائية فى سرده الروائىّ والقصصى. هذا الدهاء اللغوى تعلمه خيرى شلبى عبر اشتغاله فى مهن شتى، وأساسًا من عمال التراحيل، أولئك الذين لا يكفّون عن الغناء من تراث الفولكلور الشعبى. ولئن قال أميرُ الشعراء أحمد شوقى مرّةً: «خوفًا على اللغة العربية من عاميّة بيرم»، ليردَّ عليه بيرم التونسى بالعامية قائلا: «يا أميرْ الشعرْ، غِيْرَكْ فى الزَّجَلْ يبقى أميرك»، فإننا نقول لخيرى شلبى: لا نخافُ على الفصحى منكَ يا أميرَ الحكى؛ فأنتَ مَن استخلصَ من اللسان المصرىّ معادلةً ذكيةً تقفُ على الخطِّ النحيل الصعب؛ بين فُصحاه ودارجته. [email protected]