لا أقصد بهذا المقال انتقاد الأطباء أو خلق رأى عام ضدهم، فأنا طبيب أفخر بانتمائى إلى مجتمع الأطباء. وكم شاهدت فى المستشفى الجامعى من تضحيات خفية وبطولات منسية! الأطباء الشبان الذين يتبرعون بدمائهم عدة مرات كل عام، ويبتاعون من مالهم الشحيح أدوية للفقراء.. لا يوجد أسمى من دفع الألم، أو تكون مأوى للمنهكين، ظلا للمساكين، ملاذا للمتعبين. لا شك عندى أن مجتمع الأطباء - فى مجمله - بخير، فى حدود إيجابيات وسلبيات مصر وطننا الكبير. لكن هذا لا ينفى وجود مشكلة فى الرعاية الطبية، ينبغى أن نواجهها ونحاول حلها، خصوصا حينما يتعلق الأمر بقدس الأقداس «العناية المركزة».. وأنت بين الحياة والموت، قلبك يخذلك، جسدك تخلى عنك، أعضاؤك تعمل ضدك، وحياتك معلقة بالضمير المهنى، والتراحم والثقة. وأنت فى أوهن حالاتك لا تقدر على كشف الإهمال أو دفع الضرر. والحكاية أن طبيبا قاهريا طلب منى ترشيح مستشفى خاص بطنطا لعلاج عمه الذى يقيم فى الأرياف وساءت حالته كثيرا فى الأيام الماضية. واستقر رأيى – بعد تفكير سريع - على مستشفى خاص باهظ الأجر، يعمل به زميل تربطنى به علاقة طويلة تسمح لى بالدلال والإلحاح فى طلب الرعاية. فى العناية المركزة، أدهشنى أن الطبيب الشاب لم يسمع باسم صديقى قط، رغم أنه يعمل بهذا المستشفى منذ عشر سنوات كاملة، وسرعان مازال العجب حين عرفت أنها أول نوبتجية للطبيب الشاب فى العناية المركزة، بل فى المستشفى كله. القنبلة الحقيقية كانت حينما اكتشفت أن هذا الطبيب الوحيد الموجود فى العناية المركزة، هو ببساطة طبيب امتياز فى فترة التدريب! اقشعر جلدى وكاد قلبى يتوقف عن الخفقان من هول المفاجأة، خصوصا أن مريضى كان فى لحظاته الأخيرة، عيناه تائهتان ترنوان إلى عوالم مجهولة، وعكارة النهايات تبدو بوضوح على ملامحه المتعبة، وتشنجات تغزو وجهه بالسرعة البطيئة، ثم تشخص عيناه ويتشنج جسده كله، بعدها يستعيد الوعى ناظرا إلينا فى توسل ووهن. حاولت استدعاء صديقى، فقالوا إنها ليست نوبتجيته.. الساعة كانت تناهز الواحدة صباحا حينما سمعت طبيب الامتياز يتلو تفاصيل الحالة هاتفيا للاستشارى النوبتجى، ثم يكتب العلاج على ورقة صغيرة. لم أصدق أن مريضا بهذه الخطورة فى العناية المركزة يمكن أن يتلقى علاجا دون أن يعاينه الطبيب المختص.. بسرعة اختطفت سماعة الهاتف وطلبت منه أن يحضر فورا، بصوت متعب رد بأنه سيراه فى الصباح التالى مباشرة، قلت له فى سخرية: «هذا لو ظل حيا حتى الصباح»!. فى غضب متصاعد، اتصلت بمدير المستشفى وأخبرته أن هذا المريض حضر على مسؤوليتى، والذى سأفعله ببساطة هو أن أطلب من أهل المريض أن يسرعوا بنقل مريضهم لأن من يعالجه طبيب امتياز! فى هلع، ناشدنى ألا أفعل ووعدنى بأن يحضر الاستشارى خلال عشر دقائق لا أكثر. فى الوقت المحدد بالضبط كان الرجل يدلف إلى العناية المركزة ناظرا إلىّ فى كراهية، عابس الوجه معتل المزاج، لكنه – للأمانة - حينما شاهد خطورة الحالة وتعقيدها جلس جوار المريض يحاول - فى صبر ودأب - فك شفراتها المعقدة. حينما غادرت المستشفى آخر الليل.. رحت أتذكر تشنجات الرجل وهواء الليل البارد يحاول بلا جدوى أن يجفف دموعى المتساقطة.. أسئلة حائرة لم أدر جوابها: لماذا يخذلنا الوطن ونحن فى أوهن حالاتنا؟، ولماذا نقسو على بعضنا البعض إلى هذا الحد؟، وما الشىء الغامض الذى يتحول معه الأطباء الرحماء إلى ماكينات جشعة لصنع النقود؟! ولماذا يحاول مستشفى خاص، يربح الآلاف من العناية المركزة، أن يوفر النفقات باستخدام أطباء محدودى الخبرة على حساب أرواح بريئة، تصور أهلهم – حينما حملوهم إلى أغلى مستشفيات المدينة - أنهم قاموا بواجبهم خير قيام؟! والسؤال الأهم: ما الذى يضمن لنا ألا نكون يوما فى موضع هذا المريض دون أن يفطن أقاربنا المنتظرون بالخارج.. وهل من المعقول أن ندقق فى تفاصيل يعتمد جوهرها على الثقة؟!