اليوم موعد المباراة النهائية فى كأس أفريقيا. أعرف أنك ستشاهد هذه المباراة مع خاصة أصدقائك. أعرف أنك رتبت مواعيدك لقضاء سهرة ممتعة. أعرف أن الأمة المصرية ستجتمع على قلب رجل واحد، معزوفة الوطنية التى سيعزفها ثمانون مليون قلب. ستضاء الشاشات فى كل مكان. الشاشات العملاقة الملونة، والتليفزيونات الأبيض والأسود. فى المدن الكبيرة والقرى الصغيرة، فى النوادى الراقية والمقاهى المتناثرة، فى الساحات المضيئة والغيطان المظلمة، فى قارات العالم الخمس حيث يوجد أى مصرى أكل الفول وشرب العدس، فى بانكوك وبرلين وستوكهولم، فى الدوحة وأستراليا والبرازيل. أعرف أنك الآن أيها المصرى الكادح فى صحراء الخليج، المهاجر فى بلاد الشمال، الطريد فى أنحاء الأرض، الباحث عن لقمة العيش بشرف، المتمرغ فى عشق الوطن، الذى لم تخرج إلا قسرا، ولم تسافر إلا مجبرا، أعرف أنك أعددت ساندويتشاتك اللذيذة ومشروباتك الساخنة وفتحت بيتك لكل مصرى لتشاهدوا معا أبطال مصر يسددون الكرة فى شباك الخصم، والحقيقة أنهم يسددون قلوبكم فى شباك الحنين. ولكن أيها المصرى المقيم داخل مصر، المنكوب بعشق الوطن، ألم تسأل نفسك، وقلبك يدق بسرعة، لماذا تحب مصر إلى هذا الحد؟ ألم تفكر، ودموع الفرحة تغرق عينيك، ما الذى قدمته لك مصر حتى تذوب فى غرامها؟ لماذا صرخت من النشوة مع كل هدف؟ وانتفضت واقفا مع كل هجمة؟ واتصلت بأصدقائك ليقاسموك الفرحة! وخرجت إلى الشوارع لتشارك الناس احتفالاتها، وسامحت مصر القاسية عليك؟ نسيت إساءتها المتكررة وإهمالها المتعمد، نسيت غرفتك الضيقة، ومعيشتك الضيقة، ونفسك الضيقة. نسيت القمامة المتراكمة، والمجارى المتدفقة، نسيت جيبك المفلس وجنيهاتك المعدودة. نسيت البهدلة والمرمطة وقلة الأدب، ولم تذكر- لحظتها- سوى أنها أمك.. حبيبتك.. معشوقتك. وأنت أيها المهاجر إلى جنة الشمال.. لماذا تحدق باستمرار نحو الجنوب؟ ألا تعلم أن المتلفت لا يصل والعاشق لا يرتاح! لماذا تشعر بالغربة فى البيوت المكيفة؟ ولماذا تترك صحف بلادك الجديدة، وتطالع صحفنا الكئيبة؟ ولماذا تدمع عيناك وأنت تقرأ هذا الكلام الآن؟ لماذا تشعر هذه اللحظة برجفة وحيرة وحنان؟ وتستنشق زفارة البحر ورائحة المساجد، وتصغى للحنك الشرقى المتصاعد من داخلك باستمرار، وتعزف عن العيون الملونة والشعور الملونة والطبيعة الملونة، وتبحث عن أصدقاء الصبا والوجوه القديمة، عن المآذن العالية والكنائس العريقة، وتشعر بقلق مجهول المصدر، وتؤجل متع الحياة لحين عودتك، تدخر أشياءك الثمينة ومشاعرك الثمينة؟ تعيش أيامك بنصف قلب وربع روح. التعويذة التى ألقاها سحرة مصر القديمة فى النيل. النداهة التى لا تملك إلا أن تلبى نداءها. تعذبك وأنت فى أحضانها وتسلبك الراحة وأنت بعيد عنها. وتجعلك تبحث عن مذاق الطعمية، وتنبذ الديوك منقباً عن الجبن البلدى، والملوخية بدلاً من الكافيار. ويكبر الحنين مع كل مباراة كرة، وتسأل نفسك ذلك السؤال المصرى الخالد: هل أترك نجاحى وأعود؟ النداهة تطلق نداءها الغامض فى الليالى المقمرة فلا تملك إلا أن تلبى. أواه يا مصر كم عذبتنا!! حرام عليك فما هكذا تصنع الأمهات! خذينا فى أحضانك أو اتركينا فى حالنا. الأم لا تترك أبناءها جوعى بدون طعام، يتامى بغير حنان، الأم لا تنبذ أبناءها فى الشوارع. كل الأوطان أمهات يحتضنَّ أبناءهن، فلماذا- وحدك- قلبك قاس علينا أيتها الجميلة الشابة أُمّ سبعتلاف عام!