قد يبدو الأمر غريباً أن ينشغل شارعا الصحافة والسياسة البريطانيان بمناقشة تعديلات دستورية وانتخابية على أعرق الديمقراطيات وأقدم النظم السياسة الثابتة، فالتعديلات التى يدور الجدل حولها هى ألف باء الديمقراطية، التى تناقشها مستعمرات حصلت على استقلالها حديثا ولاتزال تبحث عن النظام التمثيلى الملائم. زعيم المحافظين، دافيد كاميرون، يريد تقليص مجلس العموم بنسبة 10% إلى 15%، أى الغاء حوالى 64 مقعدا. ورغم إشارة استطلاعات الرأى إلى تقدمه بضعفى شعبية رئيس الوزراء جوردون براون، فإن كاميرون اقترح أيضا تقليص صلاحيات رئيس الوزراء ليجعله أكثر محاسبة أمام مجلس العموم، ليس فقط أمام اللجان البرلمانية المختارة من جميع الأحزاب فى المجالات المختلفة، بل أمام نواب المقاعد الخلفية، الذين يمثلون رجل الشارع العادى. ووعد بإنقاص مخصصات النواب وإخضاع شرائهم اللوازم للجنة إدارية مستقلة. واقترح، وزعماء أحزاب أخرى، تحديد مدة برلمانية ثابتة، بينما جرت التقاليد البريطانية أن يتحدد موعد الانتخابات بتقديم الحكومة استقالتها للملكة، أما عند سحب الثقة من الحكومة بالتصويت، أو بانتهاز الحكومة فرصة ارتفاع شعبيتها لدى الناخب، فتعلن إجراء الانتخابات، متوقعة عودتها للحكم. وتقليديا لا يزيد عمر البرلمان على خمس سنوات. زعيم الديمقراطيين الأحرار، نيقولاس كليج، أحيا مطلب الحزب القديم بتعديل النظام الانتخابى من عضو واحد عن الدائرة الانتخابية إلى نظام القوائم أو التمثيل النسبى (وهو ما ترفضه بريطانيا دائما لأنه يؤدى إلى برلمانات معلقة وحكومات ائتلافية غير قادرة على إنجاز وعودها للناخب كما هو الحال فى إيطاليا). ويتزايد عدد النواب (بضغوط من زعماء الأحزاب) الذين لن يخوضوا الانتخابات القادمة، بينما فصل بضعة نواب - من الحزبين الكبيرين - ومن المتوقع أن يتجاوز عدد النواب الذين يعلنون تقاعدهم أو ترفض القواعد الشعبية للأحزاب على المستويات المحلية إعادة ترشيحهم، 100 عضو وعضوة. السبب فضح صحيفة الديلى تلغراف لعشرات النواب (وسبعة وزراء) فى مغالاتهم فى تلقيهم مصاريف إضافية مقابل الإيصالات والفواتير المقدمة. ورغم أنهم، من الناحية البيروقراطية، لم يرتكبوا مخالفات قانونية، فإن المغالاة فى شرائهم كماليات لا علاقة لها بالعمل البرلمانى أثارت غضبة الشعب. وفى نداء غير مسبوق ناشدت الكنيسة الإنجيلية المواطنين ألا يدفعهم الغضب من الأحزاب الرئيسية إلى التصويت لأحزاب اليمين المتطرف النازية كالحزب الوطنى (البريطانى) فى انتخابات البرلمان الأوروبى الشهر القادم. وغضب العلمانيون (95% من المشتغلين بالسياسة)، من تدخل رجال الدين فى السياسة. ومن المتوقع، أن تشهد الانتخابات القادمة، خوض رقم قياسى من المرشحين المستقلين عن الأحزاب الانتخابات، بسبب سخط الشعب على الساسة من جميع الأحزاب. بلغ السخط ذروته فى إجبار نواب مجلس العموم، مايكل مارتين على الاستقالة بعد اتهامه بالتخاذل فى الدفاع عن البرلمان. وهى أول استقالة رئيس للمجلس فى 304 أعوام. لكن المعلقين يرون أن الساسة قدموه ككبش فداء ثورة ستغير أعرق البرلمانات وقوانين الانتخاب. لكنها ثور على الطريقة البريطانية، فلم تخرج مظاهرة واحدة إلى الشارع تطالب بسقوط الحكومة ولم يظهر مقال فيه كلمة جارحة ضد رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس العموم. فالثورة انحصرت فى عدد لا يحصى من المنابر بسبب حرية الكلام والتعبير عن السخط أو تقديم المقترحات بلا حدود على صفحات الجرائد، وفى برامج الراديو التى يشارك فيها الناس، وفى اجتماعات الساسة المفتوحة. وعلى موقع مكتب رئيس الوزراء نفسه، الذى وقع فيه عشرات الآلاف على عريضة تطالبه بالاستقالة وإجراء الانتخابات. فعراقة الديمقراطية واستقرار النظم السياسية لا تعنيان الجمود وإنما التحرك والتطور المستمر بيد الشعب نفسه لتتلاءم مع حاجاته.