لا تتصور أنها مجرد دماء سالت على قضبان قاس.. دعنى أحدثك عن أسيوط التى ربما لا تعرفها.. كنا أطفالاً.. لا يذهب كبارنا إلى المدينة إلا لأسباب ثلاثة، لزيارة مريض فى المستشفى الجامعى لن يرجع إلا فى نعش، أو للمثول أمام محكمتها الجنائية، أو للتجنيد فى وقت كانت فيه «الجندية شرف» على الورق وألسنة المسؤولين، لكنها عند الفقراء حرمان من الابن كمصدر دخل. كان شبابها يبحثون وهم يكتبون رغباتهم الجامعية، عن مدينة أكثر بهجة، وأقل خوفاً، فيفاجأ معظمهم بالتنسيق يصر أن يلحقهم بجامعتها التى كان يحكمها الأمن بقبضة من حديد، ويطلق الرصاص على طلابها وهم على أسرّة مدينتها. هكذا كانت.. فقراً ومرضاً وجريمة اكتملت أركانها بالإرهاب الذى جعلها مستعمرة بوليسية منذ استوطنتها الجماعات الإسلامية المسلحة واتخذتها عاصمة، بعد يومين فقط من اغتيال السادات، واستمر الدم حتى منتصف التسعينيات حين اغتال «أبوعقرب» عام 1993 مساعد مدير الأمن الأسبق عبداللطيف الشيمى، وقائد قوات الأمن شيرين فهمى، وضباطاً وجنوداً معهما واستولى على أسلحتهم، وارتكب و32 آخرون 8 عمليات إرهابية زلزلت المدينة وأطرافها المنسية، وحظرت تجول أهلها سنوات، لتكتمل المأساة بالعفو عنه مؤخراً كأحد إنجازات الثورة هانم. واختلطت الجريمة السياسية بالجنائية، فبين أعواد قصبها نشأ محمد منصور، أشهر من حملوا لقب خُط الصعيد، مروراً بخُط ديروط عمر أبوسريا فى الثمانينيات والتسعينيات، وليس انتهاء بعزت حنفى إمبراطور النخيلة، ثم خط نجع عبدالرسول حمادة يسرى. لم ينعم الله عليها بما حبا به الأقصر وأسوان من آثار جعلتهم يخالطون الأجانب فترهف مشاعرهم وسلوكهم، وتتحسن دخولهم، بقوا فى فقر مدقع يطاردون الأرض بعرقهم، فترد بقليل سنبلها وفومها وعدسها وبصلها، والهاربون منهم إلى الخليج، اختارت لهم السماء بقعة تشبههم فى «صعيد» الكويت هى «خيطان» حيث لا يتوقف الرصاص، ولم ينعم عليها بفريق كرة يلتف حوله شبابها (قبل الأسمنت)، أو ملعب يخرجون فيه طاقاتهم، أو سينما (قبل رنيسانس)، أو حتى حديقة أو ملاهى، فمولدها الوحيد (الفرغل) فقير مثلها، فليس له شهرة أو كرنفالية القناوى، والسيد البدوى، ولا يناسب شبابها، وإنما يروق لشيوخها فيفترشون الأرض لقضاء سهرة يتيمة على صوت ياسين التهامى، ابن الحواتكة أكبر القرى المنكوبة فى حادث القطار. إنها محافظة لا تجف دموعها أبدا، تخترقها مياه السيول محملة بنيران صهاريج النفط فتقتل الآلاف وتجعل المنازل أضرحة. وقعت بقرية درنكة، فجراً عام 1994، أسوأ كارثة فى تاريخها، وهى التى لم تكن أحزانها تلاشت على 46 شخصاً بينهم 30 طفلاً ماتوا حرقاً عام 1988 فى دير المحرق، قبل أن تتجدد الأحزان بمساهمتها الأكبر فى ضحايا قطار العياط، لتفيق على دماء 52 طفلاً دهستها خطط التنمية. لا تذكرها الحكومة فى اجتماعاتها، ولا تظهر إلا فى أخبار جهاز إحصائها عندما يعلن أن بها أعلى نسبة سكان تحت خط الفقر 69.2%، و39.1% أمية، ولا يظهر من بين هذا الظلام الحالك إلا ابتسامة باهتة بأنها التى أنجبت عبدالناصر.. وترملت من بعده.. ومن قبله، لكنها لم تصرخ حتى الآن.. اتقوا شر الصعيد إذا غضب.