«لا أريد أن أكون سمكة ذهبية فى حوض زجاجى»، هكذا تقول الصبية بالوما للكاميرا وهى تسجل يومياتها بعد أن قررت الانتحار وحرق شقة أسرتها عندما تبلغ 12 سنة. بالوما التى تجاوزت الحادية عشرة تودع الآن طفولتها المرفهة، وتودع، بعد 156 يوما، حياتها المحنطة بعد أن سأمت من دور «القنفذ»، الذى يختبئ داخل أشواكه بحثا عن حماية تعزله بالضرورة عمن حوله، لذا نراها دوما خلف الكاميرا وكأنها تستخدمها كحاجز يفصلها عن حياة لا تحبها ولا تعرف لها معنى، فوالدها الدبلوماسى اليسارى منصرف إلى أعماله ونجاحاته، التى تجعل منه شخصية هامشية فى حياتها وفى الفيلم أيضا، وأمها موزعة بين الخمر وأدوية الاكتئاب والوحدة التى تدفعها لمخاطبة الزهور الاصطناعية، فى ملمح يذكرنا ببطل قصة تشيكوف الشهيرة «لمن أشكو أحزانى» هكذا اقتحمت المخرجة الفرنسية مغربية الأصل، منى عشاش، متحف الحياة لترسم لنا بشاعة تحنيط الإنسان المعاصر فى فيلمها «القنفذ»، المأخوذ عن رواية فرنسية ذائعة الصيت بعنوان «أناقة القنفذ» لأستاذة الفلسفة مغربية الأصل أيضا، موريل باربيرى، والرواية كما الفيلم نقد لاذع للحياة البرجوازية الفارغة من المعنى، حيث نتعرف فى مقابل شخصية بالوما على الأرملة الفقيرة رينيه (54) عاما حارسة العمارة رقم 7 فى شارع جرينيل فى باريس، والتى يبدو مظهرها مهملا وقاسيا، لكنها شعلة من الذكاء والنشاط، فهى «القنفذ» الذى يرى الناس أشواكه، ولا يلتفتون إليها إلا باعتبارها مجرد «آلة عمل» كبوابة للعمارة، وعندما تتعرف عليها بالوما تكتشف أنها مثقفة تعشق السينما والموسيقى والقراءة ومغرمة بروايات تولستوى، وأفلام المخرج اليابانى ياسوجيرو أوزى، الذى سكن نفس العمارة لفترة، وكان الوحيد الذى ناقشها بعمق وتعامل معها من الداخل وليس من الخارج، ربما لأنه كان يعانى من أزمة إنسانية بعد أن هجرته ابنته، وفى لقائهما الأول استخدمت رينيه عبارة لتولستوى تقول إن «حياة العائلات السعيدة متشابهة»، وأضاف أوزى «لهذا يعيش التعساء حياة متفردة»، وهكذا يرصد الفيلم لعبة الأقنعة والمسافات التى يستخدمها الجميع للحماية من أذى متوقع حال التعامل مع الآخرين، وهكذا تبدو مقولة سارتر الشهير «الجحيم هو الآخرون». ونتيجة تأثيرات أوزى يبدأ «القنفذ» فى التجمل وتغير رينيه تسريحة شعرها وترتدى فستانا جديدا أهداه لها لتحتفل معه بعيد ميلاده فى مطعم يابانى، وترصد بالوما بكاميرتها التغيرات التى طرأت على رينيه، وتكتشف الطفلة أن الكاميرا التى كانت «حاجز اختباء» صارت «وسيلة للمعرفة»، بل و«جسر تواصل»، لذا تخبر عائلتها ذات صباح على مائدة الفطار بأنها عرفت ماذا تريد أن تكون عندما تكبر «أريد أن أكون بوابة مثل رينيه». ليس مهما الدهشة التى فجرتها عبارة بالوما للعائلة، لأن الدهشة قد تصرفنا عن تنازل الطفلة عن فكرة الانتحار، إنها تفكر فى المستقبل، لقد صار لها غد يمتد حتى تكبر، وقد اكتشفت الطفلة ذلك عندما سمعت أمها تلقى تحية الصباح باحترام (صباح الخير يا مدام) على سيدة ترتدى فستانا أنيقا وتخرج بصحبة المخرج المعروف، ولم تكن هذه السيدة سوى رينيه البوابة التى يهملها الجميع، لقد تعاملت الأم مع الفستان وليس مع الإنسانة، فهل يكفى أن يرتدى القنفذ جناحين لكى نسميه عصفورا؟.. ربما، فهذا ما يحدث عادة. بطاقة إخراج: منى عشاش حصد 4 جوائز مهمة بينها الهرم الفضى وأحسن إخراج