تحولت مباراة كرة قدم بين مصر والجزائر إلى معركة حربية وصل فيها حجم الهجوم والاتهامات المتبادلة إلى درجة تجاوزت حدود العقل، وتبارت كثير من الصحف والصفحات الرياضية فى إهانة الطرف الآخر، وخرجت مواقع إلكترونية عن حدود اللياقة والأدب، وتحولت الجزائر بشعبها الحر الأبى إلى مجموعة من الكارهين لمصر الحاقدين عليها لأن لديهم «عُقد» من الشقيقة الكبرى ومن دورها الرائد فى المنطقة، كل ذلك بسبب نشر صحيفة جزائرية رديئة لخبر سيئ وصورة أسوأ عن المنتخب الوطنى. وعاد بعضنا ليكرر حديثاً سخيفاً وبائساً عن الدعم المصرى لثورة الجزائر، ومعايرة الجزائريين بهذه المساعدات، رغم أن عمرها أكثر من نصف قرن، كما أن مصر غيرت من توجهاتها السياسية فى السبعينيات واعتبرت أن علاقتها الوثيقة بالعالم العربى ودعمها لحركات التحرر كانت سبب أزماتها ومشاكلها، فوقَّعت صلحا منفردا مع إسرائيل للتخلص من هذا الإرث. فى نفس الوقت فقد تناسى كثير منا أن الجزائر كانت أول دولة عربية ترسل قواتها إلى مصر بعد هزيمة 67، كما أن قواتها فى حرب 1973 كانت من أكبر القوات العربية كماً وكيفاً ومن أكثرها تضحية وشجاعة. ورغم أن خطاب المعايرة المتبادل قد تراجع بين الجانبين «وهو أمر محمود» فإنه أحل مكانه خطاب كراهية غير مسبوق، المسؤول عنه بشكل أساسى الإعلام الرياضى المصرى وخاصة الفضائيات، التى يقدم كثير من برامجها بعض لاعبى كرة القدم الذين لهم علاقة وثيقة بالتخلف لا بالتقاليد المهنية والإعلامية وحتى الحس السياسى، واستخدموا لغة شديدة البؤس قامت بشحن الناس على التعصب، وظهرت إعلانات فى قنوات وإذاعات مملوكة للدولة تقول «حنوريهم» أو «80 مليون مصرى يقولون يارب وحيزلزلوا الأرض» بلغة تشعرنا وكأن الفوز فى هذه المباراة سيعبر بنا من التخلف إلى التقدم، ومن الفقر إلى الثراء العقلى قبل المادى. ولكن يبقى السؤال هل هناك مشكلة جزائرية فى مصر وعقدة من مصر فى الجزائر، وهل العلاقات الكروية المتوترة بين مصر والجزائر تحديدا تعكس مشكلة أكبر فى تركيبة الشعبين لا نجدها فى علاقة مصر مع باقى بلدان المغرب العربى وتحديدا مع المغرب وتونس؟ من المؤكد أن هناك فروقات فى طبيعة الشعبين لا تحمل فى ذاتها حكما قيميا على كليهما، ساعدت على وجود تلك «الفجوة الكروية» ولكنها لا تبرر ولا تؤدى إلى إساءة أى طرف للآخر. فالمؤكد أن خبرة التحرر والاستقلال الجزائرية كانت عنيفة واعتمدت أساسا على أسلوب واحد هو حرب التحرير الشعبية، ودفعت الجزائر ثمنا باهظا لهذه الحرب وهو مليون شهيد، وهذا ما ساعد على جعل خبرة «العنف السياسى» فى الجزائر بين الدولة والتيارات الجهادية المسلحة تصل إلى درجة مرعبة من العنف والقتل الجماعى لم تصل لها بكل الأحوال الخبرة المصرية. ولأن تنوع وثراء حقب مصر التاريخية ساعد على تشكيل ثقافة مصرية رحبة، كما أن نضالها ضد الاحتلال كان بالأساس نضالا سياسيا وشعبيا سمح لمصر بوجود درجة أكبر من التسامح والتنوع، ربما لا تكون موجودة بنفس الدرجة فى الجزائر. بالمقابل فإن عنف وقسوة الاستعمار الاستئصالى الفرنسى، جعل الجزائريين شديدى الحساسية من أى سلوك فيه قدر من التعالى أو يبدو منه أنه متعال، وكثير منهم لا يرتاح لخطاب الشقيقة الكبرى السائد فى مصر حاليا «خاصة إذا كان بلا مضمون» ولا يقبلون جملاً من نوع الريادة المصرية أو غيرها، كما أن الجزائر على خلاف المجتمع المصرى مجتمع غير طبقى تأثر بنظيره الفرنسى فى روح المساواة بين طبقاته وشرائحه الاجتماعية المختلفة، فلا يوجد هناك الباشا الوزير ولا البيه وكيل النيابة ولا الأستاذ والباشمهندس والدكتور كألقاب تعطى بحق وغير حق لأى صاحب حظوة أو نفوذ فى مصر. إن أستاذ الجامعة فى الجزائر إذا كان شابا ينادى عليه باسمه وإذا كان كبيرا فى السن يقال له أستاذ أو اللفظ الفرنسى Monsieur، ولا تشاهد فى هذا البلد - زرته مرة واحدة - الفروقات الطبقية والاجتماعية الصارخة التى تجدها فى مصر. والمؤكد أن هذه الفروقات فى تاريخ وخبرة كلا الشعبين، لم تحل دون جعل «النموذج الوسط» فى كلا البلدين محترما ومشرفا إلى أقصى حد، فإذا كان هناك بالتأكيد مصرى فهلوى ومنافق ومنسحق أمام أى سلطة، يقابله جزائرى حاد وعنيف يخلط بين الاعتزاز بكرامته وبين القسوة وعدم اللياقة وتصوره بأنه يعرف كل شىء، إلا أن أمامهما هناك - أساسا - المصرى الذى يتسم بالاعتدال والمجاملة لا النفاق، يقابله جزائرى معتز بنفسه وواع للفرق بين الاعتزاز بالكرامة (كما يقول الجزائريون «النيفه») والغلظة والحدة. والحقيقة أن الجزائريين الذين عرفتهم كانوا تقريبا كلهم من هذه النوعية «الوسط»، فحين ذهبت إلى فرنسا منذ 20 عاما فتحت لى أبواب اكتشاف المغرب العربى بالتوازى مع أوروبا، ومازلت أذكر أن بيتى الذى استأجرته فى مدينة «إكس إن بروفانس» شبه الساحلية بجنوب فرنسا حين كنت طالبا فى الماجستير قاسمته ل 6 أشهر مع زميل جزائرى هو عبد القادر وكان من مدينة تلمسان ونموذجاً نادراً فى الوداعة والاستقامة، وحين ذهبت إلى باريس لعمل الدكتوراه صادقت طالب ماجستير آخر هو زهير حامدى وكان أيضا يتسم بكثير من سمات صديقى الأول، فإذا أحب أحداً قال له فى وجهه إنه يحبه، وإذا كره أعلن دون مواربة أنه يكرهه، ويا ويل أى فرنسى أو غير فرنسى ينتقد أو يهاجم ولو تلميحا من بعيد الثقافة العربية والإسلامية أو يناصر إسرائيل وكان من بين الحاضرين أى من الصديقين الجزائريين، فعليه أن يضمن ردا قاسيا وغير متجاوز جراء هذا التلميح. والمفاجأة أن أخبار زهير انقطعت منذ 8 سنوات إلى أن اتصل بى منذ عدة أيام زميلنا فى الأهرام خليل العنانى، الذى سافر إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه حيث يعيش صديقى الجزائرى، وتحدثا عمن يعرفان فى مصر فجاء اسمى، وكان تواصلا رائعا بعد سنوات. وحين انتقلت إلى الحياة البحثية وبدأت أسافر وأحضر مؤتمرات، تعرفت على صديق عزيز وأستاذ قانون مرموق فى الجامعة الجزائرية وفى مركز الدراسات الاستراتيجية وهو لطفى بوجمرة، وكانت لنا كثير من المواقف المشتركة فى التنسيق معا ضد «أصدقاء إسرائيل» أو فى مواجهة رؤية أو موقف استعلائى معاد للعرب ومنحاز للاحتلال، وكان صديقى كما هى عادة الجزائريين الذين قابلتهم من أكثر من تعتمد عليهم فإذا وعدوا نفذوا ولا يمكن شراءهم بأى مغريات. وأتيح لى أيضا أن أشرف على العديد من رسائل الماجستير لعدد من الطلاب الجزائريين فى معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، وكانوا من بين أفضل الطلاب العرب خلقا وعلما. بالتأكيد هؤلاء يمثلون الشعب الجزائرى وليس بضعة صحفيين مرضى أساءوا للجزائر قبل أن يسيئوا إلى مصر، وحتى لو اختلفت الخبرات وبعض الطباع بين المصريين والجزائريين فهم أشقاء لا أعداء، وأن اللوثة الكروية التى أصابت المجتمعات المتخلفة حان الوقت أن تتوقف، وأن نتعامل مع المباراة على أنها مباراة كرة قدم وفقط، فوزنا لن يقلنا إلى مصاف الدول المحترمة وخسارتها لن تلقى بنا نحو مزيد من التخلف. أرجو أن يكون عدم تفاؤلى بمسار وبنتيجة المباراة فى غير محله وألا نخرج منها بكارثة أخرى تصيب العلاقات المصرية الجزائرية وتكرس غيبوبتنا الكاملة عن مشاكلنا الحقيقية. [email protected]