من الصعب فى فترة الأزمات أن يعلو صوت يطالب بالتأنى وإعمال العقل لكن الأزمة التى بدأت بلقاء رياضى وتطورت إلى أزمة دبلوماسية ومجتمعية بين مصر والجزائر لابد لها أن تأتى إلى مرحلة الاستماع إلى صوت العقل. لقد كشفت الأزمة الأخيرة عن أربعة عناصر أساسية أدت إلى تطور الأزمة بشكل أبعد من الصدام حول سلوكيات الأفراد والجماعات أثناء المباراة أو بعدها، وأصبحت تنبئ بقطيعة طويلة الأمد بين مجتمعين يعيشان فى إطار ثقافة واحدة وحضارة واحدة، ولابد لهما أن يتقابلا مع بعضهما فى كل المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية. العنصر الأول: أن الأزمة كشفت عن اتجاه الدولتين نحو تسييس الرياضة، خصوصا لعبة كرة القدم- وهذا الاتجاه يضر بالاثنتين معا، السياسة والكرة – ورغم أنه قد يقدم فوائد مفيدة الآن لرجال السياسة أو لرجال الكرة إلا أنه يضعهما فى مأزق، فللسياسة أحكامها وقواعدها، وللرياضة قواعدها، وكلتاهما لا تتفقان على أن يصل الأمر إلى القطيعة بين مجتمعين، بل إن شعار السياسة الأول كما ذكره معاوية ابن أبى سفيان (لو أن بينى وبين الناس شعرة ما انقطعت أبدا، إن شدوها أرخيها وأن أرخوها شددتها). العنصر الثانى: أن الأزمة كشفت عن مخزون من الغضب والإحباط لدى شريحة عمرية من الشعبين المصرى والجزائرى (الشباب)، كانت مباراة الكرة فقط فرصة للتفريج عنها ولكنها مختزنة ويمكن أن تنفجر فى أى وقت.. وهنا يكون من المهم مراجعة الموقف ووضع استراتيجية لدفع هذه الشريحة العمرية إلى الدخول فى الحياة العامة والمشاركة فيها. العنصر الثالث: أن أطرافا من الإعلام الخاص، والرياضى بالذات، لم تصل إلى مرحلة النضوج ومازال تعتمد على صحافة وإعلام الإثارة وقد آن الأوان لكى تدخل الحياة الصحفية والإعلامية مرحلة جديدة من النضج فلا تتعامل بنشر الشائعات ولا تؤثر نشر الأخبار المثيرة دون تدقيق. العنصر الرابع: أن الأزمة كشفت أن المجتمعين المصرى والجزائرى، لا يعرفان بعضهما البعض. إذا أخذنا هذه العناصر الأربعة فى الحسبان فإننا يجب أن نستنتج من التطورات الأخيرة عدة نقاط مهمة تسمح لنا بإعادة حساباتنا. أولا: أن المشجعين الذين ذهبوا إلى الخرطوم لتشجيع فريقهم لم يكونو يمثلون الشعبين الجزائرى والمصرى، فالجزائريون هناك كانوا من العناصر غير المتعلمة وربما الفئات التى لا تتبع سلوكا متحضرا ولكنها لا تمثل الشعب الجزائرى كله. والمصريون الذين ذهبوا إلى هناك كانوا من الطبقات المتعلمة والمثقفة، وبالتالى لم يكن الصدام ما بين مجتمعين فقط، بل بين فئتين من فئات كل شعب تختلفان فى السلوك والرؤية، ومن هنا لا يجب التعميم على الشعب الجزائرى بما فعله بعض السفهاء. ثانيا: أن التطورات الإعلامية اللاحقة وتبادل الاتهامات بغير دليل يشير إلى مشكلة يعانيها المجتمع العربى كله، هى شغفه بالشائعات والأخبار المثيرة – كما أنها تعكس أخطاء من الطرفين تخطت حد المعقول. ثالثا: أن من الطبيعى للقيادة السياسية فى كل دولة أن تسترضىالتجمع السكانى الكبير المغرم بكرة القدم وأن تدعمه، ولكن لا يعنى هذا أن توافق على سلوكيات غير مناسبة أو لا أخلاقية، وبالتالى فإن توسيع المسألة إلى القيادة السياسية غير منطقى، وإلقاء الاتهامات جزافا لا يصح بين شعبين يشتركان فى الثقافة والفكر والدين والتاريخ. رابعا: أنه يجب على كلتا الدولتين، خصوصا الجزائر، أن تتعامل مع مسببى الشغب، وأن تأخذ جديا الموقف المصرى شعبا وحكومة لكى تضع نهاية لهذه الصورة السيئة التى ظهر بها جموع المشجعين الجزائريين فى الخرطوم. خامسا: أن السودان وحكومته قاما بمجهود كبير يجب أن يكون محل تقدير الطرفين المصرى والجزائرى، فى التعامل مع موقف حساس ومتفجر. سادسا: أن قيام بعض التجمعات بحرق أعلام الدولة الأخرى، وخصوصا التجمعات التى يفترض أنها تحمى القانون وتحترمه مثل نقابة المحامين أمر غير مقبول، وكان الأحرى أن تطالب بتحقيق موضوعى مجمع بينها وبين نقابة المحامين الجزائريين لإعلاء مبدأ القانون فوق الجميع. سابعا: أنه قد آن الأوان للأعصاب المتوترة والنفوس المشحونة أن تهدأ. كل هذا يدفعنا إلى أن نعلم أن إعلاء صوت العقل والتهدئة ثم التحرى الموضوعى هى التى يمكن أن تخرج المجتمعين المصرى والجزائرى من الأزمة النفسية والسياسية الحالية.