أثار بعض ما جاء فى كتاب «من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة» تساؤلات عدد كبير من الباحثين، ولو أنهم أحسنوا قراءة كل ما جاء بها لما كانت هناك حاجة لتساؤلاتهم. وفيما يلى إيضاح بعض ما جاء فى هذه التساؤلات: أولاً.. عن الأحزاب: كان الإمام البنا دقيقاً وحذرًا عند معالجته هذه القضية، فقال بالحرف الواحد، فى مؤتمر طلبة الإخوان (1357ه): «وإن لى فى الحزبية السياسية آراء هى لى خاصة، ولا أحب أن أفرضها على الناس فإن ذلك ليس لى ولا لأحد، ولكنى كذلك لا أحب أن أكتمها عنهم، وأرى أن واجب النصيحة للأمة - خصوصاً فى مثل هذه الظروف - يدعونى إلى المجاهرة بها وعرضها على الناس فى وضوح وجلاء، وأحب كذلك أن يفهم جيدًا أنى حينما أتحدث عن الحزبية السياسية فليس معنى هذا أنى أعرض لحزب دون حزب، أو أرجح أحد الأحزاب على غيره، أو أن أنتقص أحدها وأزكى الآخر، ليس ذلك من مهماتى، ولكنى سأتناول المبدأ من حيث هو، وسأعرض للنتائج والآثار المترتبة عليه، وأَدَع الحكم على الأحزاب للتاريخ وللرأى العام والجزاء الحق لله وحده (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (آل عمران:30)». وأعتقد كذلك أن هذه الأحزاب المصرية الحالية أحزاب مصنوعة أكثر منها حقيقية، وأن العامل فى وجودها شخصى أكثر منه وطنى، وأن المهمة والحوادث التى كونت هذه الأحزاب قد انتهت، فيجب أن ينتهى هذا النظام بانتهائها. لقد تكوّن الوفد المصرى من الأمة كلها للمطالبة بالاستقلال على أساس المفاوضة وتلك هى مهمته، ثم تفرع منه حزب الأحرار الدستوريين للخلاف فى أسلوب المفاوضات، وقد انتهت المفاوضة بأساليبها ونظمها وقواعدها فانتهت مهمتها بذلك، وتكوّن حزب الشعب لإيجاد نظام خاص ودستور خاص، وقد انتهى ذلك الدستور وذلك النظام بأشكاله وأوضاعه فانتهت مهمته هو الآخر، وتكون حزب الشعب لموقف خاص بين السراى والأحزاب، وها هى الأمة كلها مجمعة على محبة جلالة الملك والالتفاف حول عرشه المفدى والدفاع عنه بالأنفس والأموال. لقد انتهت هذه الظروف جميعًا، وتجددت ظروف أخرى تستدعى مناهج وأعمالا، فلا معنى أبدا لبقاء هذه الأحزاب، ولا معنى أبدا للرجوع إلى الماضى، والمستقبل يلح إلحاحًا صارخا بالعمل والسير بأسرع ما يمكن من الخطوات. الإسلام لا يقر الحزبية وبعد هذا كله، أعتقد أيها السادة أن الإسلام، وهو دين الوحدة فى كل شىء، وهو دين سلامة الصدور، ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بنى الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد، لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه، والقرآن الكريم يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هى الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين). وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبى من تنابز وتقاطع، وتدابر وبغضاء، يمقته الإسلام أشد المقت، ويحذر منه فى كثير من الأحاديث والآيات، وتفصيل ذلك يطول، وكل حضراتكم به عليم. وفرق أيها الإخوان بين الحزبية التى شعارها الخلاف والانقسام فى الرأى والوجهة العامة وفى كل ما يتفرع منها، وبين حرية الآراء التى يبيحها الإسلام ويحض عليها، وبين تمحيص الأمور وبحث الشؤون والاختلاف فيما يعرض تحريا للحق، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع، سواء أكان ذلك اتباعا للأغلبية أو للإجماع، فلا تظهر الأمة إلا مجتمعة ولا يرى القادة إلا متفقين. أيها الإخوان.. لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية فى مصر، وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامى صالح تتوافر على وضعه وإنفاذه القوى والجهود. هذه نظرات يرى الإخوان المسلمون أن واجبهم الإسلامى أولا والوطنى ثانيا والإنسانى ثالثا يفرض عليهم فرضا لا مناص منه أن يجهروا بها وأن يعرضوها على الناس فى إيمان عميق وبرهان وثيق، معتقدين أن تحقيقها هو السبيل الوحيد لتدعيم النهضة على أفضل القواعد والأصول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) [ص 178 من كتاب «وثائق الإخوان المجهولة»، الجزء الثانى]. ومجمل هذا أن الإمام الشهيد كان يرى أن الأحزاب المصرية كانت سيئة، وفى الوقت نفسه فإن نظام الأحزاب يجافى روح الإسلام التى تقوم على الوحدة على أن تتسع هذه الوحدة لحرية الآراء بمعنى أنه فرَّق بين الحرية السياسية والحزبية السياسية. ومع أن التيار الآن هو مع تعدد الأحزاب، ومع أن الصورة التقليدية للديمقراطية قائمة على التعدد الحزبى، فليس معنى هذا أن ليس هناك ما هو أفضل منها. إن فلاسفة أثينا (أفلاطون وأرسطو) لم يؤيدا أبدًا الديمقراطية الأثينية، لأنها حكم الأصوات، وكانا يريدان حكم القانون، وفى رأيهما أن الديمقراطية الحقة لا تتوفر إلا فى حكم القانون. وكما هو معروف فإن مبرر قيام الأحزاب هو تمثيلها للمصالح المعنية، فأصحاب الأعمال يؤسسون حزبًا للدفاع عن مصالحهم، والعمال يؤسسون حزبًا للدفاع عن مصالحهم.. إلخ، وهو ما يفترض أن يكون محور السياسة هو الصراع والتنازع. والديمقراطية ليست هى أفضل النظم مطلقاً، ولكنها أفضل النظم على الساحة، وهذا لا يمنع من أنه يمكن أن يوجد ما هو أفضل منها وهو ما تمناه فلاسفة أثينا، وهو حكم القانون، وهذا شىء قريب جدًا من حكم الإسلام، خاصة أن للإسلام قانونه وهو القرآن. والحديث لا يتسع له مكان عند التعليق ولا مساحة الجريدة. من الأقوال التى أثيرت كيف يتعارض حزب الوفد مع حكم الإسلام مع أن النحاس باشا رجل متدين، وهذا هو ما اعترف به حسن البنا للنحاس، ولكن السياسة غير السلوك الشخصى للفرد، وكما قال أحد الوفديين فى تعليقه، فإن النحاس قال لحسن البنا لا سياسة فى الدين، وخطاب النحاس عن تركيا يوضح تمامًا هذه الفكرة. وجاء فى كلام الدكتور وحيد عبدالمجيد إشارة إلى حادث تحطيم الحانات، وأن ذلك مثّل صراعًا حادًا داخل الجماعة من أوساط الشباب الذين هاجموا البنا واتهموه بالتواطؤ. وهذا كلام بعيد عن الحقيقة، فالذين قاموا بتحطيم الحانات كانوا أعضاء فى «مصر الفتاة»، ولم يكونوا من الإخوان، أما انشقاق «شباب محمد»، فكان لأسباب أخرى، لعل منها موقف الإخوان من المرأة الذى يختلف عن الموقف المنشود لهذه المجموعة، وكان منهم رئيس تحرير مجلة «النذير»، وكلمه الدكتور عبدالمجيد، فأعطاهم البنا مجلة وبعض الأموال.. يثير الضحك. ملاحظة الأستاذ مصطفى الطويل عن أن تحالف الإخوان والوفد سنة 1984م كان «زواج متعة»، كلام حقيقى من الطرفين ولمثل هذه الحالات أجيز زواج المتعة. وأرجو الذين يعلقون على ما جاء فى «وثائق الإخوان المجهولة» أن ينتظروا تمام الكتاب الذى سيكون فى خمسة أجزاء، ظهر منها ثلاثة. [email protected] [email protected]