أستطيع أن أستوعب قلق الكثير من إخواننا المسيحيين - من أقباط مصر - من فكرة طرح المشروع السياسى الإسلامى كبديل للعروبة، وهو قلق يمكن أن يتشارك معهم فيه الكثير من العرب الذين يدينون بديانات سماوية أخرى غير الإسلام، فبعضهم يرى أن أى مشروع سياسى ذى صبغة إسلامية سوف يؤدى إلى خلق نوع من التمييز ضد العرب من غير المسلمين الذين ارتضوا بفكرة الالتئام على أساس القومية «اللغوية» مع وضع المسألة العقيدية فى مكانها الطبيعى داخل الكنائس أو المساجد، لكنهم فوجئوا بانفجارها داخل الشارع العربى كما تؤكد الأحداث التى شهدتها السنوات الأخيرة. ولن أعتمد فى تحليل هذه الهواجس «المشروعة» التى تجول فى خواطر إخواننا الأقباط على منهجية الحديث عما يرويه التاريخ من حكايات عن الحقوق التى نعم بها غير المسلمين داخل الدولة الإسلامية الكبرى التى تأسست تحت راية الخلافة، بل سوف أحاول أن أكون أكثر التزاماً بالحقائق المنطقية التى يقول بها التاريخ (بعيداً عن حكاويه)، بالإضافة إلى الاستناد إلى حقائق من الواقع المعاش على مستوى النظام الدولى الجديد الذى نعيش فى ظلاله منذ سقوط الاتحاد السوفيتى أوائل التسعينيات. دعونا نبدأ بحقائق الواقع، وأولاها أن الكثير من التشكيلات الإقليمية المعاصرة تستند إلى قاعدة «الفرز العقائدى» فى بنائها، الاتحاد الأوروبى، على سبيل المثال، لم يقبل حتى الآن بوجود أى دولة مسلمة ضمن أعضائه، ومن المعلوم أن هناك طابوراً طويلاً من الدول التى تقطنها أغلبية مسلمة وترغب فى الانضمام إليه، منها، على سبيل المثال، تركيا وألبانيا وكوسوفو. وموقف المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» – التى تنتمى إلى الحزب المسيحى الديمقراطى الألمانى – معروف من هذه المسألة.فهى ترفض رفضاً قاطعاً فكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، الأمر الذى جعل «أردوغان» يشخص ببصره إلى العالم الإسلامى، ودفع بتركيا إلى إعادة حساباتها فيما يتعلق ب«الشعبطة» فى القطار الأوروبى الذى لا توجد فيه مقاعد مخصصة لدول إسلامية! ثم تعالوا إلى إسرائيل، ألم تتأسس هذه الدولة على فكرة «الفرز العقائدى» أيضاً، بداية من اسمها (إسرائيل: إشارة إلى نبى الله يعقوب، عليه السلام)، مروراً بلغتها العبرية التى أحيتها من العدم، وانتهاء بسياساتها التوسعية لإقامة دولتها الكبرى التى يزعم حاخامات اليهود أن الله وعدهم بها! فإسرائيل «فكرة» تم غزلها حول مشروع سياسى عقائدى، والدليل على ذلك ما تلقاه هذه الدولة التى اغتصبت الأرض والإنسان من دعم من جانب اليهود فى كل أنحاء العالم من أجل الدفاع عن بقائها، وحرمان الفلسطينيين من إقامة دولتهم المشروعة على ما تبقى لهم من أرض. معنى ذلك أننا أمام مشروعين سياسيين يستندان إلى أساس عقائدى، أحدهما مسيحى، والآخر يهودى. فلماذا إذن يتم حرمان المسلمين من تدشين مشروع سياسى على أساس العقيدة التى يؤمنون بها؟ وهل منع وجود مسلمين (بنسب صغيرة أو كبيرة) داخل أوروبا «المسيحية» أو إسرائيل «اليهودية» من بناء مشروع سياسى على أساس عقائدى ترعاه سلطة «بابا الفاتيكان» من ناحية، وحاخامات «تل أبيب» من ناحية أخرى؟ ومع ذلك فلست من المنادين بعودة الخلافة الإسلامية – كما فهم البعض – بل أطالب فقط بتأسيس اتحاد نطلق عليه «اتحاد الدول الإسلامية»، يتجاوز سلبيات منظمة المؤتمر الإسلامى القائمة حالياً، من خلال التجمع المخلص تحت راية الإسلام. ويمكن أن يسترشد هذا الاتحاد فى تأسيسه بمبادئ الاتحاد الأوروبى التى تنص على نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوروبية، لكى تظل هذه المؤسسات محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة لها من كل دولة على حدة، وأن تكون له عملة موحدة، وسياسة اقتصادية تقوم على التكامل بين الدول، مع وجود نوع من التنسيق السياسى فيما بينها فى مواجهة التحديات المشتركة. نحن إذن بصدد مشروع سياسى ندعو فيه إلى استبدال فكرة «القومية اللغوية» ب«القومية الثقافية الإسلامية» التى تجمع ما بين المسلمين العرب وغير العرب. والقومية الثقافية الإسلامية هى جزء أيضاً من التكوين المسيحى العربى، وقد كان الراحل الكريم الدكتور مكرم عبيد يردد عبارة نافذة فى هذا المقام، حين كان يصف نفسه بأنه « مسيحى الديانة مسلم الثقافة». وكذلك المسيحية تعد جزءاً من التكوين الثقافى للمسلم المصرى أو العربى، ولعل أبرز دليل على ذلك أن أشهر قراء القرآن الكريم فى مصر كانوا دائبين على تلاوة سورتى «يوسف ومريم» أكثر من غيرهما من سور القرآن الكريم (وكل سور القرآن جليلة ومقدسة بالطبع)، لأنهما يتصلان بالبعدين (الفرعونى) و(المسيحى) فى الثقافة المصرية. لذلك فحديث إخواننا الأقباط عن خطورة هذه الفكرة يقفز على الكثير من حقائق الواقع الدولى، وكذلك الواقع الإقليمى، بل الواقع المحلى أيضاً. فالكثير منهم يشتكى حالياً من حقوقهم المهدرة على يد أنظمة سياسية تستمد جانباً من شرعيتها من توجهها القومى (العربى). لذلك فقد يكون من الخير لهم التوجه البديل الذى نقترحه، وهم يعلمون أكثر من غيرهم أن «الخط الهمايونى» الذى صدر فى عهد الدولة العثمانية وفر لمسيحيى مصر العديد من الحقوق، رغم اتهام البعض له بأنه كان وثيقة اضطهاد. من هذه الحقوق النص على المساواة بين كل المواطنين فى الحقوق والواجبات، وانتخاب البطاركة من خلال الكنائس، وأن يظل البطريرك فى منصبه حتى مماته، ولا تنزع سلطته إلا من خلال الكنيسة، وإعفاء الكنائس من الضرائب والمصروفات، وعدم إجبار أى شخص على ترك دينه، وأن يكون حق التعيين فى مناصب الدولة المدنية والعسكرية على أساس الكفاءة بدون تمييز فى الدين، وأن تكون الدعاوى القضائية بين المسيحيين والمسلمين فى محاكم خاصة يرأسها قضاة من الطرفين. والجانب الأساسى الذى يعيبه البعض على «الخط الهمايونى» يرتبط بضرورة موافقة السلطان العثمانى (آنذاك) على بناء وترميم الكنائس، وقد ذهب السلطان، ولم يعد لهذا النص أى قيمة، وبالتالى فقد يكون فى عودة الروح إلى المشروع السياسى الإسلامى، وقيام «اتحاد الدول الإسلامية» خير كثير للعرب، مسلمين ومسيحيين.