الحكم الاستبدادى يحاول دائماً أن يلهى شعبه بأشياء تجذب مشاعره فيتحمس لها حتى ينسى المأساة التى يعيش فيها، وكل من مصر والجزائر تتمتعان بنظام استبدادى قمعى لا يسمح لأى انتخابات حرة أو تداول سلطة، وفى كلتا الدولتين هناك سخط شعبى داخلى عليهما وأوضاعهما الخارجية مهتزة على مستوى الدول العربية أو مستوى العالم. هناك فروق بين شعبى الجزائر ومصر، جزء منها نابع من نوع الاستعمار الذى كانا تابعين له، فالاستعمار الاستيطانى العنيف الذى لم يقدم تنازلات لشعب الجزائر خلال مائة وثلاثين عاماً حتى الجلاء بعد حرب دامية راح فيها مليون شهيد، هذا بالإضافة إلى الطبيعة الجبلية للجزائر التى جعلت المواطن الجزائرى عنيفاً فى تصرفاته. هذا خلافاً للشعب المصرى الذى ذاق مرارة استعمار بريطانى له سياسات مختلفة، ولكن هذا الاستعمار المحنك أعطى مصر استقلالاً جزئياً، واستطاع أن يمتص غضب الثورة ويشغل الشعب بمعارك داخلية، وبالإضافة لأننا مجتمع نهرى هادئ كان المصريون دائماً ليسوا من أنصار العنف الشديد. نأتى إلى أحداث المباراة، لقد أدارت الدولة المصرية الأزمة بطريقة سيئة انتهت بكارثة من أجهزتها الإعلامية والدبلوماسية تستحق المساءلة من رئاسة الدولة ومن الشعب. نبدأ بحادث أتوبيس اللاعبين الذى كنت أصدق فيه الرواية المصرية إلى أن شاهدت تسجيل اليورونيوز وفيه إلقاء الطوب على الأتوبيس. وتأكدت بعد ذلك من مصادر مصرية موثوق بها أن هذا العمل قام به مصريون وكان لابد من الاعتذار ومحاسبة المسؤول عن تأمين أتوبيس اللاعبين. وقد تم استغلال هذا الحادث البسيط دعائياً فى العالم كله ضد مصر، وكذلك لإثارة الجماهير الجزائرية وإلهائها عما يعانى منه الشعب الجزائرى. وبعد هذه الإثارة قامت الدولة الجزائرية بعمل شديد العدوانية حين سمحت للغوغاء بتحطيم شركة مصر للطيران وشركة أوراسكوم للاتصالات، وأثارت الرعب والهلع لدى المصريين المقيمين فى الجزائر ومنعت سفرهم إلى مصر. وبدلاً من الاتصالات على مستوى عال لاحتواء الموقف، قام الإعلام المصرى بوصلة ردح من عدة قنوات حكومية ومستقلة، وردت الصحف الجزائرية بردح مواز، أدى إلى تفاقم الأزمة وانتشار الروح العدائية تجاه المصريين وشركاتهم فى الجزائر، وبعد أن فاز الفريق المصرى بهدفين، قيل إن الجزائريين حطموا صالة السفر فى المطار، وإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا لم نستغل ذلك بتصويرهم أثناء الخروج بالفيديو وعرضه على العالم كله.. وبدا النظام المصرى عاجزاً ومشلولاً فى معركة اعتبرها مصيرية، وهى فى الحقيقة مباراة بين فريقين ضعيفين فى كرة القدم. أرسلت الجزائر فور انتهاء مباراة القاهرة طائرات حربية بمشجعين حقيقيين لكرة القدم بينهم بعض البلطجية استولوا على شوارع الخرطوم. أما مصر بكل أجهزتها لم تنتبه لهذا الأمر ولذا لم يرفع علم مصر فى أى مكان فى الخرطوم، ووصلت الطائرات المصرية يوم المباراة وهى تحمل باشوات ومليونيرات الحزب الوطنى وألاضيشه وطائرات أخرى تحمل الفنانين والإعلاميين. ومعظم من سافروا لم يحضروا مباراة كرة قدم فى حياتهم من قبل، وكأنها نزهة بطائرات بعضها خاصة وبعضها عامة. وأثناء المباراة لم يكن هناك صوت لمصر لأن مشجعى كرة القدم الحقيقيين لم يذهب منهم أحد. وبذا خسرنا المباراة قبل بدئها لأن الدولة أصبحت رخوة لا تستطيع حتى أن تدير مباراة فى كرة القدم. وبعد المباراة وخسارة مصر تم الاعتداء من بعض المشجعين الجزائريين على الأتوبيسات المصرية وهى منطلقة للمطار فى مشهد حزين، لأنه لم تكن هناك شرطة سودانية تحميهم ولا تأمين مصرى يقوم بذلك، وقد تحدثت مع مهندس مصرى عاقل أثق به، وهو بالمناسبة عروبى التوجه دفع ثلاثة آلاف جنيه للذهاب للمباراة، وحكى لى منظر الهروب إلى المطار وهو شديد التأثر. واستمر الإعلام المصرى فى إثارة المصريين، والحقيقة أنه كان يجب أن يهاجم الدولة التى أساءت إدارة مباراة لكرة القدم بكل أجهزتها، وفى النهاية لم تمانع الدولة من قيام مظاهرة أمام سفارة الجزائر، وهى نفس الدولة التى تمنع 5 أفراد من التجمع أو التظاهر فى أى مكان، وحين انفلت الزمام أمام سفارة الجزائر ضربت الشرطة المتظاهرين، ورد المتظاهرون بالطوب فحدثت إصابات فى العشرات من الجانبين، وأغلقت الزمالك، وفى نفس هذا الوقت قامت الجماهير الجزائرية بالاحتفال فى الجزائر احتفالات كبيرة بالنصر كانت نتيجتها مقتل أربعين جزائرياً، وإصابة المئات منهم، وهى دلالة على مدى العنف والجنون. إنه شىء مذهل أن تحول دولتان تتكلمان نفس اللغة ولهما تاريخ مع بعض، مباراة فى كرة القدم إلى معركة حربية فيها إصابات وقتلى وعداء بين الشعبين.