فى وداع عام واستقبال عام جديد ينشطون وينتشرون ويتبارون فى تحديد مواقعهم التى يفتخرون بها على قائمة الشرف المزعوم. كل منهم يستعرض نبوءاته التى صدقت، كتعرض زعيم لحادث اعتداء أو مرض فنانة مشهورة أو وقوع كارثة طبيعية أو غير ذلك من النبوءات التى لابد من وقوعها.. يرتدون أفخر الثياب، ويلجأون لأحدث المخترعات والخدع البصرية والسمعية التى يسخرونها لسحر حواس المنجذبين المبهورين بهم. الدجالون والعرافون الذين يحلو للكثيرين أن يلقبوهم بالمنجمين، تفرد لهم الجرائد مساحات متميزة، وتخصص لهم القنوات التليفزيونية والإذاعية برامج فى مواعيد الذروة، وتطبع الكتب الفاخرة، وحديثًا كَثُرَت المواقع الإلكترونية عالية التقنية. وأتذكر هنا قصة مصرى قُبِضَ عليه فى إحدى دول الخليج متلبسًا بممارسة العلاج فى شقة خصصها للسحر والشعوذة والعلاج بالوصفات والعقاقير التى يُعِدُّها بنفسه. ولما سأل المكلفين بالقبض عليه عن تهمته وجدها ممارسة الطب بغير مؤهل علمىّ. ابتسم المتهم باطمئنان وأخرج لهم شهادة تخرجه فى كلية الطب بجامعة مصرية مرموقة. أسقط الاتهام وواصل حديثه، موضحًا أنه حينما فتح عيادة طبية لم يَزُرْهُ إلا قليلون، ولما حَوَّلَهَا إلى شقة مشبوهة تحيط بها السرية ويتناقل أخبارها الفضوليون ذاع صيته وتهافت عليه الرواد، وحيث إنه مدرك مسؤولية تخصصه كان يعالجهم بتقديم الدواء مسحوقًا وملفوفًا فى أوراق بدلاً من عبواته الأصلية ليوهم الناس بأنها وصفات سحرية مبروكة. هو بلا شك أحد مظاهر غياب الحكمة، أن يشترى الناس الوهم، وعزائى الوحيد هو أننا لسنا وحدنا فى هذا الهم؛ بكل أسف انتشرت هذه الحماقة فى معظم أنحاء العالم، وأقول «معظم» وليس «كل» خشية أن أظلم حكماء لا يسلمون أنفسهم للدجالين الذين يخاطبون فينا نزعة الاستسلام. يدافع مسؤولو الصحف والمجلات والقنوات المختلفة عن «حظك اليوم» و«نجمك الفلكى» و«تنبوءات الأبراج»، يدافعون بقولهم: إنها نوع من الترفيه أو التسلية، كقراءة الفنجان والكف والودع وفتح «الكوتشينة»، وأجدنى لأول مرة أتفق معهم على أنها جميعًا تقع فى خانة واحدة، ولكنها خانة أو مساحة مظلمة فى مسيرة الإنسانية. كل هذه الوسائل ترويج مباشر للتخلى عن الحكمة والإيجابية والرضوخ للوقوف على رصيف الحظ.. يستوى فى هذا أىّ صعلوك مع الرؤساء والملوك. خرافات توارثها الناس، وتمادوا فى ترسيخها فى التركيبة الإنسانية المعقدة. وأعود لمسؤولى الرأى وصائغى الفكر والوجدان من القائمين على جميع أشكال التواصل والإعلام، وأطرح سؤالاً: كم من الموضوعات القَيِّمَة والأخبار العلمية لا ترى النور لضيق المساحة؟ هى بلا شك كثيرة. ما رأيكم لو استبدلتم بها تنبوءات من نوع آخر، تنبؤات طبية قيمة حول مستقبل الأبحاث الطبية التى تبعث الأمل فى نفوس المرضى، أو مستقبل الخامات الإنشائية التى تغنينا عن تكييفات الهواء صيفَ شتاء، أو مستقبل مصادر الطاقة لنطمئن على توفيرها لأبنائنا وأحفادنا، أو مستقبل الدراسات الاجتماعية التى تسعى لحل مشاكل التفكك الأسرى وانهيار العلاقات الإنسانية البديعة؟! خَصِّصُوا مساحات أوسع للكاريكاتير أو النكتة الذكية.. وإن عجزتم فلتكن مساحات بيضاء تريح العين وتنشر الصفاء والاطمئنان. وأعود للدجالين، متأسف.. أعنى الدكاترة العباقرة الفلكيين المنجمين الذين يزعمون أن الله عز وجل منحهم قدرات خاصة تسمح لهم بقراءة الطالع ومعرفة المستقبل، إنهم يناقضون وينقضون منطق الإنسان الذى ورد فى كل الأديان.. الإنسان مخلوق يجهل مستقبله مهما بلغ علمه بماضيه وتأثيره فى حاضره. إن تشجيع هؤلاء المخادعين ولو بالإنصات إليهم منافٍ تمامًا للحكمة الإلهية. فلو علم إنسانٌ كلَّ ما ينتظره من مصائب وأزمات وآلام ما غفلت عيناه ولا عرف السعادة حتى ينتهى أجله. والحكمة التى أنشدها لا تقضى بإلقاء القبض على الدجالين ولا تحريم نشر التنبوءات، وإنما تقضى بنشر الوعى بين الناس بالتناصح المخلص الأمين، وأداء كل منا لواجبه نحو الآخرين. فلتجلس «فاتحة الودع» على الناصية بجوار العسكرى كما يحلو لها، ولينتشر الدجالون فى الأسواق والموالد، ليفعل كل منهم ما يريد، وفى المقابل يمتنع الناس عن التعامل معهم. أفضل وسيلة للتخلص من كل هذه المظاهر السيئة هى كشفها، تسليط الضوء عليها، لتختفى فورًا كما تختفى الخفافيش بمجرد بزوغ نور الفجر. هذا ما أحاول فعله بهذه الكلمات لعلّى أنجح فى تعريتها أمامكم، فتشاهدوا منها ما تكرهون. السعى لمعرفة الغيب يقتل فينا الطموح، ويضعف إرادتنا، ويعمق تخاذلنا، ويستهلك طاقتنا فى غير نفع، وقبل كل هذا يضعف صلتنا بالله، ويقلل اعتمادنا وتوكلنا عليه، فنصير بلا مولى. [email protected]