سيبقى «مهاتير محمد» رئيس وزراء «ماليزيا» الأسبق، واحدًا من عناوين القرن العشرين المهمة.. كان شابا فقيراً.. عاش وسط مجتمع ممزق بما لا يعتقد أحد فى إمكانية توحيد صفوفه.. اجتهد باحثا عن العلم، وبقى طموحه فى ميدان السياسة يحلق نحو الآفاق.. درس الطب فى أهم وأرقى جامعات «سنغافورة».. عاد إلى بلاده يمارس مهنته، فذاع صيته كطبيب يشار نحوه بالبنان.. كانت الصحف تنقل أخباره، للحد الذى جعل إحداها ينشر تحقيقاً عنه، وعن سيارته الفارهة التى امتلكها نتيجة إقبال المرضى عليه.. لكن السياسة كانت تأخذه من نفسه ومن الثراء والوجاهة الاجتماعية والنجومية أيضا.. تقدم مرشحًا للبرلمان فى منتصف الستينيات، ونجح فأصبح نائبا عن الأمة.. كرر التجربة عام 1969 فلم يحظَ بثقة الناس.. هنا أدرك أنه لابد من التفرغ.. إما للطب الذى تفوق فيه، وإما للسياسة التى تأخذ عقله وفكره.. اتجه إلى عالم المغامرة والمؤامرة والتحدى، فكان السياسى الذى صعد بقوة الصاروخ.. تولى فى البداية وزارة التعليم، واستمر يتألق حتى أصبح نائبا لرئيس الوزراء.. وكان له أن أحكم قبضته على أهم حزب فى البلاد وفاز بالأغلبية حتى ارتقى رئيساً للوزراء.. ومنذ عام 1981 حتى غادر منصبه عام 2003.. كان يرفض أن يناديه أحد أو يكتب اسمه مسبوقا بالدكتور.. فهو القائل: كنت حكيم أطفال والآن أصبحت حاكما للأمة!! شتان الفارق بين «ماليزيا» وما فيها من حكماء – لا أقول أطباء – وبين مصر وما تضمه من الذين فشلوا فى الطب، فاتجهوا إلى تجويد الفشل أمام الأمة يفاخرون بجهلهم!! المهم أن التجربة الماليزية وصانعها «مهاتير محمد» تحولت إلى نموذج اقتصادى، يتحدث عنه كثير من الساسة.. لكنهم للأسف لا يلتفتون إلى الجانب السياسى فى تلك التجربة المتفردة.. فرئيس وزراء «ماليزيا» الأسبق، كان متهما دائماً فى وطنه بأنه ديكتاتور.. بل إن البعض كان يصفه بأنه «الفرعون».. فهو اعتقد أن صناعة نهضة اقتصادية من أمة قائمة على أعراق وديانات مختلفة ومتنوعة، لا يمكن أن تتحقق بحرية دون ضوابط يقول فيها من شاء كل ما شاء.. ويمتهن فيها من شاء أى وظيفة شاء.. لذا حكم بلاده بقبضة حديدية نقلتها إلى آفاق القرن الواحد والعشرين قبل أن يهل هلاله بسنوات.. وصل بنسبة النمو إلى ما يفوق 9%.. جنت بلاده خلال فترة حكمه من السياحة فقط 25 مليار دولار سنويا.. قفز عائد النفط إلى 21 مليار دولار سنوياً.. بارتفاع غير مسبوق عما سبق حكمه أو حتى فى سنوات حكمه.. كان الفرعون «مهاتير محمد» لا يلقى بالاً للصحافة والإعلام.. بل إنه يفاخر بعد أن ترك الحكم بما فعله تجاههم.. فهو لم يترك صحيفة تعبث بالوحدة الوطنية للأمة.. تدخل فى تحديد القنوات التليفزيونية التى تستحق بلاده أن تشاهدها – النظام مازال معمولاً به حتى الآن – وفى أكثر من ندوة ومناسبة كان يؤكد أن الصحافة يمكن أن تفجر الأمة من الداخل لو احترفها – أو تطفل عليها – أولئك الذين لا يعرفون غير الوجاهة وإدمان الفشل فى تخصصاتهم الأصلية!! «مهاتير محمد» كان يعانى كسل بنى عِرقه – المالاو – وكان يحترم كثيرا المكون الثانى لعناصر الأمة من الصينيين، لأنهم يجيدون النجاح فى المجالات الاقتصادية، دون محاولة دس أنفهم فى السياسة.. لم يحاول أن يمنعهم من السيطرة على البنوك وشركات التأمين والصناعات الثقيلة والصغيرة.. ويعلن أنه لا يشعر بالندم تجاه ذلك لأن تلك الأقلية ذهبت بالبلاد بعيدا، حتى أصبحت واحدة من أهم عشر دول فى آسيا.. فتلك السيطرة لأبناء «الصين الماليزيين» على الاقتصاد كان من شأنها رفع نصيب شعب «المالاو» من الناتج القومى إلى أكثر من 40%، بينما كانت قبل ذلك لا تزيد على 19%، ووصلت سيطرة «المالاو» على الوظائف الحكومية إلى نسبة 56%، لكنهم ظلوا أقل ثراء من الأقلية «الصينية الماليزية».. ومن أهم مميزات «مهاتير محمد» أنه كان شجاعا وقويا وقادرا على مواجهة الأغلبية قبل الأقلية.. فكان يقول عن بنى عرقه إنهم كسالى وموظفون وينتظرون من يذهب إليهم بحقوقهم على صينية من الفضة.. لكن ذلك لم يمنع التفاف الأمة حول الرجل وتمسكها به، حتى قرر طائعا مختارا مغادرة السلطة لرفيق دربه «عبدالله بدوى».. ثم كانت سنوات القطيعة والجفاء بينهما.. ومؤخرا ترك كلاهما الحزب الحاكم والساحة السياسية فى معركة كسر عظام استمرت لسنوات. أقام «مهاتير محمد» نهضة بلاده على التعليم.. فاهتم به إلى أبعد الحدود.. رفض أن يشاركه دفع البلاد نحو المستقبل أولئك المتطفلون على الإعلام عامة والصحافة خاصة.. لذلك لا يمكن أن تسمع هناك فى هذه البلاد العظيمة صوتا للذين يحلو لى وصفهم ب«سفهاء الأمة»!! [email protected]