مبان.. جدران.. كلُ حديث عن المعهد القومى للأورام الآن يدور حول انهيار جزء من حائطه الجنوبى، الذى لم يصمد سوى 20 عاما فقط، ولكن ما خفى أعظم. فداخل جدران هذا الصرح، يجتمع ثالوث الفقر والجهل والمرض على رؤوس نزلائه، متضافرة مع قسوة بعض الأطباء، ولامبالاة بعض الممرضات، وروتينية بعض الموظفين، فى مأساة حية خبرتها طوال 3 سنوات، كمتطوعة مع جمعية أصدقاء معهد الأورام، التى كانت تمثل حقا البعد الإنسانى النادر داخل هذا المكان. فما إن تم الإعلان عن إنشاء المعهد البديل فى 6 أكتوبر، حتى تراءى لى ميدان «فم الخليج» من شرفة الدور الرابع، الخاص بقسم الأطفال فى المبنى الحالى، عندما كان «سامح- 6 سنوات» يقطع ممره الطويل هرولة، ماسكا بيده حامل الجلوكوز، تزين وجهه ورأسه الأملسين ابتسامة تنافس الشمس فى إشراقتها، لمجرد أنه رأى أحد متطوعى الجمعية فى طريقه لفتح «مكتبة» اللعب والمجلات. ما إن سمعت وزير التعليم العالى يتحدث عن «الخدمة العلاجية للمواطنين»، تمنيت ألا يكون مفهوم «الخدمة» لديه مقتصرا على العلاج «المجانى»، إذ إن ما يحتاجه المريض أكثر بكثير من مجرد سرير ودواء وجلسات كيماوى. شاهدت بسطاء من أرياف مصر ونجوعها، شيوخا وأطفالاً، يدخلون هذا الصرح بأيادٍ مرتجفة، بعد معاملة جافة، كثيرا ما كانوا يلقونها من موظفى الشباك الخارجى. فى «عيادة الجراحة»، حيث يكشف المرضى للمرة الأولى، لا تكون المعاملة أفضل حالا، وتحت ضغط الزحام، لا يكلف الطبيب نفسه عناء شرح «حالة» المريض، ولا ترهق الممرضة نفسها فى توجيهه للخطوة التالية، عند تسلمه مثلا نتائج التحليلات والأشعة، فلا يدرك- خاصة إذا كان أمياً- ما ينبغى عمله، باستثناء موعد زيارته المقبلة، وهو ما تترتب عليه سلسلة من الكوارث بحق هؤلاء البسطاء، الذين من المفترض أنهم يتمتعون بمظلة العلاج «المجانى». فكم منهم تناول أدوية خاطئة، أو تعرض لجلسات كيماوى هو فى غنى عنها.. وكم منهم دفع حياته ثمنا لإهمال معالجيه! عجوز طاعنة استوقفتنى مرة. ألقت بملفها الطبى بين يدى، ورمتنى بعفوية ريفية «أودى ده فين يا بنتى؟». حاولت الاستفهام: «ماذا قالت لك الممرضة عندما أعطتك هذا الملف؟»، فردت بقلة حيلة: «ماقالتش حاجة».. طبعا استغرقت رحلة البحث عن إجابة سؤالها أكثر من ساعة، خاصة أنها لم تكن على دراية بطبيعة الكشف أو التحاليل التى قامت بها. إنها لا تملك حتى الوعى بأبسط حقوقها فى «الاستفسار» عن وضعها، ربما لأنها «جاهلة» وربما لأنها «فقيرة»، وفى الحالتين هى «مريضة»، ولكن الأغلب، خجلت تلك العجوز من سؤال الأطباء أو خافت، لأن أجهزة الدولة وموظفيها كثيرا ما يُشعرون المواطنين بالدونية تحت أكذوبة العلاج المجانى. هنا يتجسد البعد الإنسانى الذى تكاد تستأثر به جمعية أصدقاء معهد الأورام، التى تنشر متطوعيها فى المبنيين القديم والجديد، فيقومون بما تعجز عنه «ملائكة الرحمة»، اللائى جرد الاعتياد بعضهن- بكل أسف- من «الرحمة»، أمام مشاهد، أقلها وطأة لأب يجلس القرفصاء منكسرا، ويبكى بالدموع عاجزا، بينما يئن ابنه فى حضنه إثر جلسة كيماوى، وهو يتوسل الممرضة الإسراع باستدعاء الطبيب.. دون جدوى. ليست الجدران إذن هى كل ما ينبغى على الدولة العناية به، إنما هى الروح التى تسكن كل صرح طبى يدّعى المجانية، وعدم الاكتفاء برصد ميزانيات ضخمة، فماذا يفعل نزلاء معهد الأورام بحمامات مسقوفة بالسيراميك الملون، وفى أحواضها من القاذورات ما تعفه الأنفس؟! ببساطة لأن الموظفين من أطباء وممرضات وعمال نظافة غير معنيين بأبجديات «الرعاية» الصحية لهؤلاء البسطاء. [email protected]