«الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» كانت قضية الخير والشر من القضايا التى حيرت الفكر البشرى من أقدم العصور حتى لقد تصور البعض وجود إلهين: إله للخير .. وإله للشر، تسليمًا منهم بوجود الشر وجهلاً لمبرر هذا الوجود، إلا أن يكون إلهًا . الأمر أهون من ذلك، فقد كان لابد من وجود الشر ليظهر الخير، لابد من وجود الشيطان ليظهر الملاك، وقد تنبه إلى ذلك المتنبى عندما قال فى «فلته» عبقرية «وبضدها تتبين الأشياء»، فالأسود لا يظهر بالأبيض، والليل لابد أن يعقبه النهار، ولا يعرف الطويل إلا بوجود القصير.. إلخ. ولكن يبدو أن الجماهير لا تقنع بهذا المنطق الجدلى، وهى تريد للشر كياناً ذاتيًا مستقلاً، ولكى يحقق لهم الله هذا، قدم «الشيطان» الذى يتبلور فيه الشر. والقرآن الكريم فى كل أمر من أمور الغيب يقدم صورة مجازية ليمكن للعقل البشرى عقل الكرة الأرضية أن يستوعب كيانات وكواكب أكبر من الأرض ولا حد لها، فالشيطان أولاً كان ملكاً من الملائكة وتمرد على الإرادة الإلهية عندما أُمر الملائكة بالسجود لآدم، وأبى متذرعًا بأنه أفضل منه، «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»، وعلى هذا فنحن لا نستطيع أن نقبض بأيدينا على الشيطان سواء فى حالته الملائكية الأولى ولا فى الحالة التى جعلته «الشيطان» عندما تمرد على الإرادة الإلهية وعندما تملكته الأثرة والأنانية والظن أنه يعلم كل شىء، وهذه هى مداخل الانحراف الذى يؤدى إلى الضلال، «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ» حتى ينتهى النهاية التى أرادها أن يحتنك ذرية بنى آدم، وأن يجلب عليهم بخيله ورجله وأن يعدهم، وأن يشاركهم فى الأموال والأولاد، باختصار لا يدع سبيلاً للغواية إلا سلكها، وقد أمهله الله إلى يوم القيامة، وهو ما يتفق مع المجتمع البشرى كما يتفق مع ما أراده الله تعالى من محاسبة فى الدنيا ومحاسبة فى الآخرة. قضية وجود الشيطان، أو لنقل الشر قضية محسومة بالصورة التى عرضناها، والقضية هى ليست فى وجود الشيطان وغوايته التى لا حد لها، وبقاء ذلك إلى يوم القيامة، ولكن القضية التى أكدها القرآن مرارًا وتكرارًا، أن الشيطان على هذه القوة الفائقة لا سلطان له على المؤمنين، لأن الإيمان يعطيهم قدرًا من الحصانة ضد إغوائه، ولكن الشيطان لا يعدم فرائسه ممن يهن فيهم الإيمان وتعظم الشهوة.