جاء شعار التغيير والإصلاح المنفصل عن المعاناة المعيشية والقضايا الوطنية متزامناً مع إغفال الأهداف القومية وعلى رأسها مواجهة مخططات الاستعمار والعمل على تحرير الوطن العربى من كيان عنصرى استعمارى استيطانى إحلالى يهدد دوماً المصالح القومية بل حياة المواطنين فى مصر وبقية الوطن العربى، فعلينا أن نتذكر ما حل بالأوطان من خراب كنتيجة مباشرة ل«سلام» كامب ديفيد والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لها والمرتبطة بها، ولا يقتصر هذا الخراب على مصر بل كان من الطبيعى أن يمتد إلى بلاد عربية أخرى، وتدمير العراق واحتلاله ليس الحالة الوحيدة، كان هذا نتيجة لتراجع دور مصر العربى وفقدان درجة كبيرة من إرادتها المستقلة ولتبعيتها لقوى الهيمنة الغربية، كان من المنطقى فى إطار كامب ديفيد بيع الغاز للكيان الصهيونى وحصار غزة ومناورات النجم الساطع وتقديم «التسهيلات» لاحتلال العراق، وفى إطار «الانفتاح الاقتصادى» توأم «سلام» كامب ديفيد كان من المنطقى أيضاً انتشار الفساد واتساع الفجوة المذهلة بين الفقراء والأغنياء، وخصخصة وبيع القطاع العام، كان من المتوقع تدهور التعليم واتساع البطالة، كان لابد من الطوارئ والقهر والاستبداد، ومن تزوير الانتخابات وهيمنة الحزب الحاكم، كل هذا كان يحتاج لإعلام ينتقد بعض المظاهر دون المساس بجوهر القضايا، ولإلهاء فى مسائل هامشية أو تافهة. هكذا ترابطت وتفاعلت المآسى والقضايا وأصبحت كلاً لا يتجزأ، فى هذه الظروف وبعد احتلال العراق واعتداءات وتهديدات الكيان الصهيونى المتكررة وتصاعد الغضب الشعبى يرفع شعار «التغيير» الغامض الذى يختزل القضايا المحورية فى مطلب تداول السلطة وشعار «لا للتمديد ولا للتوريث»، ليست المشكلة هنا فى مشروعية هذه المطالب فهى مطالب ضرورية لكن القضية تكمن فى فصلها عن بقية القضايا، وقد أسعد الإدارة الأمريكية وقوع «النخبة» المصرية فى هذا الفخ، فعبرت كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، بوضوح عن رضاها لابتعاد «المثقفين المصريين» عن الشعارات القومية وتوجههم للاهتمام بقضايا «الإصلاح» و«التغيير»، والمثير للدهشة أن هذا التصريح لم يثر قلق عناصر من «النخبة» فلا نجد تعليقاً عليه فى كتاباتهم الغزيرة! بالإضافة لاستمرار البعض الآخر فى التمسك بشعار خاطئ، وكأن الاعتراف بالحق خطيئة وليس فضيلة! ولأن القضايا فُتّتت وأختزلت فلا نستغرب مشاركة معارضين ذوى توجهات متناقضة فى بوتقة واحدة، وهنا لا أتحدث عن المذاهب السياسية، وكان من المنطقى أن تدب الخلافات بين أعضاء «النخبة» لاختلاف الأهداف والمآرب فى الواقع. أصبحت القضية المحورية التى لا يصح أن يتحدث أحد عن غيرها - هى ديمقراطية صناديق الاقتراع حسب النموذج النيوليبرالى، ووفق هذا النموذج نجد أن تعريفات الحرية والعدالة ليست كما تعبر عنه الألفاظ، فكما يقول د. منصور «فالحرية هى حرية التملك»، «أما المساواة والعدالة فتتحققان عن طريق توازن المصالح والمنافسة الحرة فى السوق». لا نغالى إذا قلنا إن منهج «النخبة» المصرية التى تتصدر العمل السياسى المعارض منذ حوالى خمس سنوات هو فى مجمله منهج نيوليبرالى حتى وإن لم يكن بعضها واعياً لذلك أو لا يعتبر نفسه كذلك، كما أنها لا تعبر عن المطالب الشعبية الأساسية وقد يفسر ذلك عدم اكتراث القطاعات الشعبية بالحراك السياسى الحالى الذى تفسره «النخبة» بالإحباط والتقاعس. تبنت قيادات «التغيير» الحالية منهج التجزىء للقضايا ثم اخترالها مما جعلها تضم عناصر متناقضة الأهداف إلا فى جزئيات معينة محدودة، فبعض أعضاء «النخبة» لا يجرؤن على إعلان معارضته لمعاهدة «السلام» مع العدو الصهيونى بل إن أحدهم يعلن «معارضته الشديدة لأى اعتداء على إسرائيل». وهناك قيادة أخرى من «النخبة» تعلن صراحة «أرحب بالدعم الأمريكى للإصلاح وأرفض استخدامه لابتزاز النظام»، «لا نريد من واشنطن سوى مساندة مطالبنا وإذا حدث فلن يكون تدخلاً فى الشؤون الداخلية»، وتذكرنا هذه المقولة بتصريح د. مصطفى الفقى بأن من سيحكم مصر فى المستقبل لابد أن يكون موافقاً عليه من أمريكا وغير معترض عليه إسرائيلياً، هذا التصريح ليس بغريب فهو يجىء على لسان قيادة تابعة للنظام الذى هو بدوره تابع للإدارة الأمريكية، لكن ما هو غريب فعلاً أن نجد قيادة للتغيير ترحب بالدعم الأمريكى للإصلاح، ألا يفصح هذا عن نوعية التغيير المنشود!! يجىء هذا الترحيب والمناشدة فى وقت يتصاعد فيه التحدى للهيمنة الأمريكية عالمياً، ويتحدث بعض المفكرين الغربيين عن «ما بعد العالم الأمريكى» والاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب. فى نهاية هذا المقال الذى له بقية لابد من التأكيد على أن وسيلة التغيير تحدد نتائجه ونوعيته، فإذا جاء التغيير عن طريق الدعم الأمريكى ستكون نتائجه قطعياً مختلفة عن تغيير يجىء عن الطريق الصعب وهو الضغط الشعبى المنظم، ليس صحيحاً أن غاية الجميع واحدة أو أن الوسيلة منفصلة عن الأهداف، ولهذا يصبح شعار التغيير الغامض مرفوضاً، لابد إذاً أن يكون شعار التغيير مفصحاً عن نوعية التغيير المنشود وبالضرورة لا يمكن أن يكون مقصوراً على قضية تداول السلطة التى تركز عليها «النخبة». إن فاعلية الشعار لا تكمن فقط فى صياغته بشكل معبر عن القضايا الوطنية والمجتمعية، فعملية إنتاج الشعار نفسها هى الأهم بما فى ذلك منتجوه: شريحة محدودة من المثقفين أم قطاعات واسعة من الشعب؟ إن شعار «التغيير» المتداول اليوم هو شعار نخبوى منفصل عن أهل مصر الأخرى.