لسنا وحدنا الذين نُحَوِّل القتلة إلى أبطال، ولسنا وحدنا أيضا الذين يُلامون على مسؤوليتهم فى صناعة القتلة وإن كنا ضحايا لهم. سواء كنت تخالفنى رأيى ذلك أو تتفق معى فيه، دعنى أحكِ لك عن هذه الحادثة التى وقعت فى بريطانيا مؤخرا وعايشتها بنفسى وهى تهز البلاد وتشغل العباد. فى مطلع الشهر الماضى خرج من السجن بودى جارد اسمه راؤول موت (وللاسم بعد كتابته باللغة العربية معنى غير متوفر عند كتابته بالإنجليزية)، وكان قد أمضى عقوبة السجن لفترة غير طويلة بسبب اتهامه بالإيذاء البدنى لأطفاله، كانت صديقته وأم بنته قد قالت له وهو مسجون إنها انفصلت عنه وارتبطت بضابط بوليس، فعزم راؤول على أن ينتقم منها ومن حبيبها الجديد فور خروجه، وأسر بذلك لبعض رفاق سجنه الأندال الذين أبلغوا عنه الإدارة التى أبلغت بدورها مسؤولى الشرطة فى المقاطعة التى يسكن فيها راؤول، ومع ذلك خرج راؤول من السجن واشترى سلاحا فى بريطانيا التى لا يحمل فيها ضباط الشرطة أساسا أى سلاح نارى، وذهب لينتقم، فأطلق النار على صديقته وقتل حبيبها، وخرج بعد ذلك ليطلق النار على أول ضابط بوليس يقابله، تصادف أنه كان ضابطا يجلس فى سيارة الشرطة على الطريق يراقب السيارات المخالفة للسرعة، أطلق عليه راؤول النار بدم بارد ثم بعث برسالة للشرطة أنه لن يستريح حتى يقتل أكبر عدد ممكن من رجال البوليس، جزاء ظلمهم له وحبسه على جريمة يقول إنه لم يرتكبها، وأخيرا قيام أحدهم بأخذ حبيبته منه. وانطلق راؤول موت أو أبو موتة البريطانى كما اخترت أن أسميه هاربا فى البرارى والغابات المحيطة لتبدأ أكبر عملية مطاردة فى تاريخ بريطانيا لرجل مسلح، بعد إعلان هروبه خرج علينا فى التليفزيون بيان مهذب من الشرطة ينبه المواطنين المقيمين فى مقاطعة نورثنبرى وما حولها إلى أنهم قد يلاحظون أن رجال الشرطة يحملون أسلحة نارية، ويعتذرون عن الانزعاج الذى قد يحدثه ذلك فى نفوس المواطنين الذين يأتى هذا الإجراء لحمايتهم، لعلك لا تعلم أن أفراد الشرطة فى بريطانيا لا يحملون أسلحة نارية، بل يستخدمون العصى الكهربائية وما شابهها من وسائل الردع «الدايت»، وفى الظروف القصوى يستخدمون المسدسات التى تحتوى على الطلقات المطاطية، وسأترك لك هنا التعليق المناسب. وفى حين استمر البوليس فى مطاردة راؤول موت وتعقب أصدقائه الذين يمكن أن يساعدهم، بدأت الصحافة ومحطات التليفزيون تتعقب سيرة موت، لتكتشف أنه كان يا ولداه ابنا لأب مجهول، وأن الست أمه التى رفضت أن تقر باسم أبيه ثم هجرته سنين طويلة عندما طلبوا منها أن تعلق على ما فعله قالت لهم ما معناه «بلا نيلة.. نفسى أشوف موت ميت دلوقتى»، أما زوجته السابقة وأم عياله فقد قالت عنه كلاما أظهره بصورة وحش بشرى حقيقى، ناهيك عن نشر صور لقتيله ولصديقته والضابط الذى أطلق عليه النار وهما فى حالة صحية حرجة، وما جاء هذا النشر المكثف إلا بعد أن بدأت وسائل الإعلام تلاحظ أن موت تحول إلى بطل فى أذهان الناس، وأن أناسا كثيرين يتعاملون معه بوصفه ضحية للمجتمع، ولا يخفون تعاطفهم معه فى مواجهة البوليس، خاصة أنه ترك رسالة لدى أحد أصدقائه يطمئن فيها الجمهور أنه لن يستهدف أحدا من الناس بل رجال البوليس فقط، واضطرت السلطات أن تقطع الإنترنت عن المنطقة التى تتم محاصرته فيها، تذكر أنه صحيح بلطجى ولكنه بلطجى إنجليزى متعلم أحسن علام ومدرب على التعامل مع التكنولوجيا، بل ولديه عقبال أملتك صفحة على الفيس بوك كان يقوم بتحديثها أولا بأول حتى جعلوه «ديسكونكت» رغما عنه، لكن الصحف كانت تصله بطريقة ما، اكتشفوا ذلك بعد أن غضب لما جاء فيها عن سيرته المهببة، فترك فى الخيمة التى كان يختبئ فيها فى الغابة شريطا مسجلا داخل كاميرا يهدد فيها البوليس والصحافة بأنه سيقتل شخصا عاديا مقابل كل معلومة مسيئة تنشر عنه، وهو ما جعل البوليس يطلب من الصحافة سرا أن تتوقف عن نشر ما يغضبه، وتعلن للجمهور أن موت قد أصبح خطرا على الناس العاديين، وقتها كنت فى مدينة أدنبرة عاصمة أسكتلندا، التى تعتبر قريبة نسبيا من شمال إنجلترا حيث هرب موت، ولأن عقلى مدرب دائما بحكم النشأة والعِشرة مع المصائب على تخيل أسوأ السيناريوهات، أخذت أسأل كل من حولى بلهفة عما إذا كان موت يمكن أن يهرب إلى أسكتلندا ويقوم بمجازر جماعية لقتل الأبرياء، ردا على ما لحق به من إهانات، فتحولت إلى محط سخرية كل من سألته، ووجدت لدى الجميع على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية ثقة عمياء فى أن موت رجل طيب وابن حلال ومن أحفاد روبن هود، وأن ما قاله عنه البوليس ليس سوى أكاذيب لتحطيم شعبيته لدى الناس. ونكمل غداً. [email protected]