«الحكى عن الحياة هدف أهم من أن تعيش الحياة» هذا ما يؤكده الروائى الشاب محمد صلاح العزب ويصف به روايته الجديدة «سيدى برانى» التى تصدر قريبا عن دار الشروق. يقول العزب: الرواية تدور فى مدينة سيدى برانى على الحدود بين مصر وليبيا، فى إطار أقرب للواقعية السحرية التى تستدعى التراث الصوفى والحكى الشعبى ممثلا فى «ألف ليلة وليلة»، ويضيف: الجد «سمعان» يصنع حيوات كى يحكيها لا كى يعيشها، فخلال الرواية يحكى لحفيده عن 13 حياة عاشها متنقلا عبر أزمنة وأماكن مختلفة، ومعظم الأزمنة متخيلة، بينما الأماكن تختلف بين القاهرة وباريس وسيدى برانى، والحفيد يقابل مريم ويحكى لها. تخلط الرواية بين الواقعى والمتخيل، وترصد الحياة الأخيرة للجد بتركيز شديد لتقدم رؤية عامة للقرن العشرين من بدايته وحتى نهايته من خلال الحياة الأخيرة للجد. يقول العزب: بدأت كتابة هذه الرواية منذ عام 2003، وخلال هذه الفترة كتبت ونشرت مجموعة قصصية «لونه أزرق بطريقة محزنة» وثلاث روايات «سرداب طويل يجبرك سقفه على الانحناء»، «سرير الرجل الإيطالى»، «وقوف متكرر» وكتاب أدب ساخر «كرسى قلاب»، إلا أننى كنت أعود دائما لهذه الرواية وكان اسمها فى البداية «صلاة العزلة» وظللت أعمل عليها وأطور فيها إلى أن خرجت بصورتها النهائية، وبذلت فيها مجهودا أكبر مما بذلته فى الروايات الأخرى، فمثلا حجمها 3 أضعاف رواياتى السابقة، كما اهتممت بالبناء اللغوى والدرامى على السواء. تعتبر هذه التجربة هى ثانى تجارب النشر للعزب «29 سنة» فى دار الشروق، ويشير إلى أن الدار تكفلت بسفره لقضاء فترة فى سيدى برانى لمعايشة المكان، والوقوف على العديد من التفاصيل والحكايات عن ذلك المجتمع البدوى البسيط الأقرب إلى العزلة. مقطع قبل تجليه الأخير على جدران غرفتى القذرة فى وسط القاهرة بتسعة وخمسين عاما يا مريم هبطت الطائرة بجدى فى باريس، فارتعب حين لامست عجلاتها أرض المطار وأغمض عينيه لتتجسد فى مخيلته صور سريعة: ضريح متهدم. شارع كلوت بك. حديقة الأزبكية. جامعة القاهرة. قطار مسرع. أسمر ملك روحى. مقهى بير حمص. فتح عينيه وحمل حقيبته وخرج مع الخارجين. عُمره المدون فى جواز سفره هو الثلاثين، بينما لا يتجاوز عمره الحقيقى هذه المرة عشرة أعوام فقط، غادر فيها ضريحه وعمل فى ملاهى وسط القاهرة، ثم دخل الجامعة وتفوق فيها وحصل على منحة لدراسة التعدين والبترول فى جامعة السوربون، ركب الطائرة خائفًا ونزل منها ثم حمل حقيبته ووقف أمام المطار من الخارج، وكما فعل كل من غادروا المطار معه وقف حاملا حقيبته، واستوقف سيارة أجرة. طلب من السائق بالإنجليزية التى درس بها فى الجامعة أن يحمله إلى المقابر، تكلّم السائق بالفرنسية فلم يفهم جدى، فأعاد الرجل سؤاله بالإنجليزية: أىّ مقابر؟ فأجابه جدى: أىّ مقابر. تحركت السيارة وشعر سائقها أنه يُقِلّ رجلا غريبًا فلم يتكلم طوال الطريق، وحين وصلا إلى أقرب مقابر أنزله ولم يناقشه فى النقود التى أعطاها له ومضى مسرعًا. دخل جدى إلى المقابر يجر حقيبته الثقيلة خلفه، شعر بأنه يقف أمام لوحة جميلة لِجَنَّة خضراء تتوسطها زهور كثيرة من كل الألوان. فى ركن اللوحة يقف حارس المقبرة كأنما يخشى أن يظهر فيفسد بهجة الصورة. وفى المنتصف أمام أحد القبور تقف امرأة شابة ترتدى فستانا أبيض، تتكلم بصوت خافت، ملامحها مبتسمة كأنها تُسر خبرا مفرحًا لشخص يسير بجوارها فى الطريق وليس مدفونا تحت الأرض. شعر جدى بجمال الموت وسط هذا المكان، وود لو يمكنه التخلص من كل شىء لينزل فيدفن هنا. مر بجوار المرأة ببطء محاولا أن يفهم ما تقوله فلم يفلح، ابتعد عنها قليلا وضحك بصوت مسموع، فتوجه إليه الحارس وسأله شيئا بالفرنسية، فهزّ له جدى رأسه بالنفى وانصرف.