- قوى معادية تلاعبت بإنتفاضة 25 يناير و30 يونيو فتم امتصاصهما بالعنف ولم يكتملا ليكونا ثورة شعبية - الثورات تحدث عندما لا يتوقعها أحد ومن المستحيل التخطيط لدراسة ميدانية مضبوطة للسلوك الثوري - مجمل الأدلة المتوافرة تؤكد أن هناك قائد متلاعب بالأحداث منذ يناير 2011 لإعتلاء سدة السلطة - ترويعات الرئيس الدائمة بما يحاك لمصر وشعبها مثال واضح للتلاعب بالمواطنين - تأسيس مسار نهضة إنسانية في الوطن العربي إن خرجت الثورة العربية من تعثرها - حلم "الأوميجا" هو حلم برجوازي " مُخزٍ" يكشف أن الغرض اقتناص المنصب السامي للتنعم الشخصي بامتلاك مظهر فارغ - من الممكن إقامة الحكم الديمقراطي السليم في ربوع المنطقة العربية إذا إمتد التحرر العربي - المد التحررى قد يفضي إلى كوارث مفجعة فى عموم العالم إن إتسعت حرب إقليمية أو توسعت لحرب عالمية يخطئ من يستخف بالاهتمام بالشأن النظري إبان الحالة الثورية في المجتمع العربي، فالثورة ليست فقط صراع قوى، ولكنها، ربما في المقام الأول، صراع على المعاني, ومن ثم تبرز قيمة البعد النظري في النظر في مآلات المد التحرري العربي. يقوم هذا المقال على بعض من القسم النظري من كتاب، بالإنجليزية، أعمل عليه بعنوان "ثورة عربية قيد الاكتمال؟". وعلامة الاستفهام في نهاية العنوان مهمة من حيث أن الكتاب يزعم أن المد التحرري العربي الذي بدأ في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد واجه نكسات خطيرة ، ومع ذلك يمكن أن يؤسس لمسار نهضة إنسانية في الوطن العربي تنقض ركام عقود بل قرون من التخلف والركود، إن اكتملت الثورة العربية الراهنة، والمتعثرة في أكثر من قطر عربي، بإقامة الحكم الديمقراطي السليم في ربوع المنطقة العربية كافة. لكنه يمكن أيضا أن يفضي إلى كوارث مفجعة تتعدى المنطقة العربية إلى عموم العالم، إن توسعت حرب إقليمية، قد بدأت فعلا بقيادة الولاياتالمتحدة، أو أسوأَ إن اتسعت إلى حرب عالمية. الشفَق لُغة، هو الضوء الخافت الذي يلي ظلمة الليل ويفضي إلى انبلاج النهار، ساطع الضوء. وهي أفضل تعريب وقعت عليه لكلمة Liminality بالإنجليزية والموضوع يقوم على قراءة، بتصرّف، في كتاب صدر حديثا (2014) لعالم أنثروبولوجيا دنماركي واسع الإطلاع ومتنوع الخبرات المعرفية (بيورن توماسون) وموضوعة الأساس هو الانتقال الطقوسي من حالة إلى حالة مغايرة، وهو موضوع يهتم به علماء الأنثروبولجيا في دراسة الانتقال من الطفولة إلى البلوغ في المجتمعات البدائية بشكل خاص. ولكن الكتاب يحتوى فصلا عن "الثورات السياسية" شعرت وأنا أقرأه أنه، في مواقع كثيرة، يكاد ينطبق حرفيا، وصفا أو تحليلا، على الانتفاضات الشعبية في المد التحرري العربي، وفي مصر بشكل خاص. وأظن أن القارئ الفطن سيلحظ توافقات مدهشة بين هذا التحليل النظري المجرد من وقائع بعينها على الأرض العربية، وبين تطور أحداث الثورة الشعبية في مصر، ولذلك سأبقي ملحوظاتي في هذا الصدد مختصرة وفي أضيق الحدود، وأضعها بين قوسين. ----------- من المستحيل التخطيط لدراسة ميدانية مضبوطة للسلوك الثوري، فالثورات غالبا ما تحدث عندما لا يتوقعها أحد. ولذلك فإن دراسة الثورة الشعبية (الكاتب في الأصل يستعمل تعبير الثورة السياسية)، تنطوي على مخاطر وغموض، خاصة إن كان موضوع الدراسة مازال في طور التشكّل. ولعل النقطة الموضوعية الأهم للكتاب هي أن الثورة الشعبية في العصر الحديث تشابه الأحداث الطقوسية التقليدية. ولذلك فإن دراسة الثورة الشعبية لا تتوقف عند فحص السلوك السياسي للقاعدة الشعبية فقط، ولكن أيضا يقتضي التمعن في "اللحظات" التي تكتسي فيها القاعدة والقمة مسحة نسبية، وقد تنعكس أدوارهما، ويندمج الكلي والجزئي في وحدة مُشكِلة. ويقترح توصيف الثورة الشعبية كموقف شفقي واضح في ساحة مجتمعية ضخمة حيث لا يتوقف دور التحليل الشفقي على التعرف على أهمية فترات "المابين" بين حالتين متمايزتين، ولكن يتسع ليلقي الضوء على الطرق التي تشكل بها الشفقية الشخصية، وتتصدّر الإرادة، وفي بعض أحيان، يلتحم الفكر والفعل. ويشير توماسون إلى أن كثرة علماء الاجتماعيات اهتمت بمفهوم الثورة. حتى "إميل دوركهيم" أبو المقاربة الوظيفية في العلم الاجتماعي، الذي يقدمه، للدهشة، في قالب ثوري مقترحا أنه ولو لم يحتف بالثورة إلا أنه رأى أنها يمكن أن تحل محل الدين، وكأنه يتمنى أن يوجد في مستقبل ثوري. وللتدليل على ذلك، يقتطف عنه القول، في 1995، "سيأتي يوم تعرف فيه مجتمعاتنا أوقاتا من الفوران الإبداعي، تتدفق فيها الأفكار وتبزغ صياغات فكرية جديدة لهداية البشرية". عن السياق المجتمعي، يقترح أن الثورة الشعبية لا تقوم إلا في مجتمعات كبيرة ومعقدة التركيب حيث يكون هناك نسق أكبر يجري الخروج عليه في خضم صنف من السياسة العالية. إلا أننا يتعين ألا نتوقف عند "أحداث الاحتجاج الضخمة كأشكال من المقاومة ولكن ينبغي أيضا أن نهتم بالأفعال "الصغيرة" التي يقدم عليها الناس بهدف تحسين أحوالهم (هذا عامل مهم لمن يقللون من دور حركات الاحتجاج الشعبي ويسمونها اجتماعية أو فئوية) فهذه أفعال يقومون بها لإحداث تغيير يحسن من ظروفهم القاسية. فالمقهورون عادة واعون بظروفهم ويمتلكون سبلا مستترة للقيام بأفعالهم السياسية الاحتجاجية، غالبا في أشكال خفية وغير مأطرة قولا صريحا. ويتمحور مضمون الثورة الشعبية حول عدة محاور، لعل أهمها عندي، في منظور المد التحرري العربي: • حدوث تحول سريع في البنية السياسية للمجتمع • يرافقه عملية تعبئة جماهيرية وأفعال خارج مؤسسات النظام تستهدف تقويض السلطة القائمة. • يستشعر الأفراد المشاركون في هذه النشاطات كلحظات استثنائية، شفَقية. • يتزعم هذه الأفعال قادة يبرزن من خارج تنظيمات السلطة القائمة، يزعمون أو يُعتبرون أنهم ممثلون للناس (لعل هذه النقطة مكمن مأزق الثورة الشعبية في مصر). • يشكل العنف عادة، وإن ليس دوما، أحد جوانب التحول، ويتصاعد إبان الفترة الثورية، وقد يتجاوز مداها. • يترافق مع نجاح التحول السياسي تحولات بنيوية سريعة الوقع في التشكيلات المجتمعية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية (هذا مظهر قوي لعدم اكتمال الثورة الشعبية في مصر). • تنتهي الثورة الشعبية عندما يجري امتصاص اللحظة الاستثنائية في بنى تنظيمية ومؤسسية اعتيادية لا يتحدى فيها أحد السلطة القائمة بشكل جذري. وقد تأخذ هذه العملية أشكالا استعراضية ويرافقها تصعيد للعنف (توصيف بليغ للحظة الراهنة في مصر، ومكمن خطر قتّال للثورة الشعبية).. وتحتل اللحظات المعنوية في عملية الثورة الشعبية موقعا مهما في التحليل الشفقي، الذي يقوم على بنية ثلاثية توقيتات الدراما المجتمعية: الانعزال، والمابين أو الشفقية، وإعادة الدمج. كما تلعب الحشود دورا محوريا في الثورة الشعبية، فهي لا تعني مجرد قلب نظام حكم و الخروج على الدولة من خلال حركة شعبية، بل لابد أن تشارك "الجماهير". غير أن الجماهير لا تتحرك من دون قيادة. وبالأحرى، إذا فعلت لا يفضي تحركها إلى ثورة، بل تنتهي كانتفاضة شعبية، أو احتجاجا شعبيا، لا تجلب تغييرا بنيويا أو مؤسسيا. وهذه الأشكال الانتفاضية والاحتجاجية متواترة بكثرة في التاريخ. أما الثورات فهي بالمقارنة نادرة الحدوث. بعبارة أخرى الانتفاضة قد تفضي إلى ثورة شعبية، ولكن يندر أن يتحقق هذا التتالي. (هنا موضع التساؤل الحارق في حالة الثورة الشعبية في مصر. وتقييمي المتواضع أنه قد قامت في مصر موجتان من الانتفاض الشعبي الضخم، في يناير 2011، ويونية 2013، على نظام الحكم التسلطي الفاسد الذي ينتج حتما الظروف الموضوعية للإحتجاج المفضي بالتراكم إلى الانتفاض الشعبي. لكن جرى، للأسف، امتصاصهما بالعنف والتلاعب من قبل القوى المعادية للثورة الشعبية، فلم تكتمل أيهما في ثورة شعبية تحقق الشروط المذكورة قبلا. وفي هذا التوصيف تحذير وتنبيه للموجة الثالثة من الانتفاض الشعبي التي يستدعيها نسق الحكم التسلطي الفاسد نفسه بعد امتطائه الموجة الثانية من الانتفاض الشعبي في يونية 2013). ففي الحشود يمتزج الناس في حالة شعورية يتوقف فيها الاعتداد بالخصوصية والتفرد، ويكتسب الحشد حياة خاصة به ككائن مستقل عن الأفراد المكونين له في اللحظات الشفقية، تلقائية كانت أو مصنوعة (مثال: لواء المجلس العسكري الذي اعترف علنا بالتلاعب بالحشود في ميدان التحرير من خلال نشر الإشاعات). ويحدث هذا بصورة أقوى عندما يتجمع الحشد في قرب جغرافي لصيق حيث تترامي الاقتراحات من كل صوب وحدب، محدثة حالة غير عادية من الاستثارة العصبية التي تستولي على مشاعر الأفراد وتُخضع الحشد لمن يبدو مشبوب العاطفة أكثر من بين أعضائه. إلا أن حياة الحشد المشحون عاطفيا هذا تبقى قصيرة بالطبيعة. ومع ذلك يبقى أن الثورة الشعبية تمثل حالة نقية من الدراما المجتمعية تنقلب فيها التراتبيات رأسا على عقب. ويستدعي هذا التوصيف جانب مستويات التحليل في فهم الثورة الشعبية. تستدعي عملية تداعي التفرد في الحشد تشبيه "الإنهيار الثلجي" المتعاظم كعملية اجتماعية يمكن أن تفضي فيها تدفقات من الأفعال الفردية، إلى نتائج هائلة في وقت شديد القصر. وهكذا فإن دراسة الثورة الشعبية تنصب على اقتران الأحداث الجزئية والكلية في أحيان بحيث تنتج الأحداث الجزئية (الفردية) نتائج كلية. وفي خلاف مع المنهج الوظيفي المهيمن في العلم الاجتماعي الغربي، يحتاج البعض ("تيرنر"، 1903) مثلا، أن "التقليد" هو الدافع الأهم لاستحداث وتطوير المؤسسات الاجتماعية. وحيث تقع الثورة الشعبية في سياق حقيقة خارجية عنها، يترتب على تشبية "الإنهيار الثلجي" أن تأتي الثورات على موجات. وبينما يمكن قبول أن الظروف المجتمعية المتشابهة في مواقع متباينة قد تؤدي إلى نتائج مماثلة، فلا يمكن استبعاد أثر عامل التقليد من هذا المستوى من التحليل (نقطة مهمة لتكرار الانتفاض الشعبي في مصر عبر الزمن، وفي بلدان عربية مختلفة إبان الموجة الأولي من المد التحرري العربي) وتهتم دراسة الثورة الشعبية بموقع الأحداث. حيث تأخذ الثورات أشكالا طقوسية قوية من خلال استملاك الميادين العامة كمسارح طقوسية. وهذا النمط يشابه طقوس البلوغ في المجتمعات التقليدية التي تقام عادة في ميدان القرية أو المدينة الرئيس داخل دائرة طقوسية على مرأى من الجميع، وفي كثير من المجتمعات الصغيرة تتطلب ارتداء قناع. وعليه فإن دراسة الثورة الشعبية تعني إلى حد كبير دراسة استملاك الأماكن العامة من خلال طقوس الحشد. ولكن يبقى التساؤل: من هم قادة الطقوس، قادة الحشد، في حالات الشفقية في الأماكن العامة؟ يستدعي هذا التساؤل مباشرة دور القادة والمتلاعبون بالحشد في الثورة الشعبية. وفي دراسة قادة الحشد، يظهر أن القائد يبدأ عادة كواحد من المقودين جري تشبعه بالفكرة التي أصبح من حوارييها حتى امتلكته لدرجة أن يتلاشى كل شيئ سواها، ويبدو كل رأي مخالف خطأ أو خرافة. كما يتزايد احتمال اصطناع الإنقسامية بشكل قوي في المواقف الشفقية. إذ يمكن للمتلاعبين البارعين إنتاج الإنقسامية وتصعيدها إلى حد استثارة العنف والتدمير. وعند بلوغ هذ النقطة يقدم المتلاعب نفسه على أنه المخلّص المُنجّي من المهالك (يمكن هنا تذكر لواء الجيش، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي اعترف بنشر الإشاعات في ميدان التحرير للتلاعب بعواطف الجماهير). وعندما يخطئ الحشد بالنظر إلى المتلاعب كمخلّص، يجري التلاعب بعواطف الحشد تكرارا (أداء لواء جيش آخر من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة التحية العسكرية للشهداء على وسائل الإعلام). ويمكن أن تخضع المجتمعات للإنقسامية لفترات طويلة تحت تأثير القهر الباطش. ولذلك تعيش المجتمعات المنقسمة في حالة دائمة من "الحرب"، محاطة بالأعداء الذين يريدون غزوها وتدميرها (ترويعات الرئيس الحاكم الدائمة منذ كان مرشحا بما يحاك لمصر وشعبها من مؤامرات خارحية، مثال واضح) في المضمون، تنطوي الثورة الشعبية دائما على هدف مزدوج: نزع الشرعية عن نظام الحكم القائم(باعتباره غير ممثل "للناس") وإضفاء الشرعية على الثوار لكونهم حاملوا النظام الجديد (المعبر عن "الناس"). وفي هذه العملية الثورية تتعرض فكرة "الناس" نفسها للتحول. إلا أن نظام الحكم القائم يستعمل الاستراتيجية المزدوجة ذاتها ضد الحركة الثورية. ويتبلور صراع رمزي مكثف حول الحق الشرعي في السلطة، صراع حول المعاني، يُشكّل الطبيعة الجوهرية للنظام الجديد، إن قام. إن الحقب الثورية تكون حبلى بجنين تكوين المعاني التي سيقام عليها النظام السياسي الجديد، وعادة ينطوي هذا المخاض على تفسيرات جديدة للنصوص والصور الراهنة، وقد يحمل تعايشا لحظيا لأنساق رموز، أونظم معرفية، متعددة ومتباينة. هناك إذن بعد ثقافي عميق للثورات الشعبية. ومن هنا ينتقد بعض كبار المؤرخين المقاربات البنيوية لدراسة الثورة الشعبية لأنها تهمل الإيديولوجيا، على الرغم من أنها تلعب دورا محوريا في الثورة الشعبية، كسبب وكنتيجة سويا. فماذا عن نهاية الثورة الشعبية؟ تختلف الثورة الشعبية، باعتبارها موقف إنهيار كاسح لنظام قائم، عن التحول الطقوسي التقليدي في جانبين رئيسين. الأول أن الغموض يحيط بالمستقبل إحاطة متأصلة، في مقابل أن من يخوض تجربة التحول في الموقف التقليدي يحيط به، رغم إنتقالية حالته الشخصية، استمرار وجود مجتمعه المعتاد الذي ينتظر إعادة إدماجه فيه. والثاني، أنه لايوجد قادة حقيقيون للطقوس الشفقية، لأن لا أحد قد مر بالتجربة الفريدة بالتعريف في السابق. ما يتوافق مع هذه الحالة أفضل هو توصيف "الكرنفال" الذي لا يعترف بالتمييز بين الفاعلين والمتفرجين. فالكرنفال ليس مسرحية يشاهدها متفرجون بل يعيشها الناس ويشارك الجميع لأن الفكرة ذاتها تحتضن الجميع، وطالما يدوم الكرنفال، تنتفي الحياة خارجه. (التمييز الثاني بحاجة لإعادة نظر في حالة مصر، حيث يشير مجمل الأدلة المتوافرة إلى أنه قد كان هناك قائد متلاعب بالأحداث منذ يناير 2011، ليس إلا الرئيس الحاكم وقت الكتابة، عمل في البداية على فض "الكرنفال" بصفته كرئيس المخابرات العسكرية، ثم رتب لإعتلاء سدة السلطة، والله أعلم). ويصير السياق الثوري أكثر تفجرا بفقدان المرجعيات الزمنية، فالثورات لا تعلن عن مواقيت نهايتها. وتشير هذه الفروق إلى الثورة الشعبية كموقف شفقي تصير فيه لحظات الغموض بالغة الخطورة، متيحة مسرحا مثاليا لمدعي قيادة الطقوس الذين يزعمون "رؤية المستقبل"، بينما هم في الحقيقة يؤسسون لإقامة مجدهم الشخصي بتدويم الغموض ويفرغون اللحظة الشفقية من الإبداع الحقيقي، ويحولونها إلى مسرح لمنافسة تقليدية يغشاها العنف ضد الثوار (يستدعي هذا التحليل تنبؤات الرئيس الحاكم، وقت كان ساعيا للمنصب، ولو مبديا التمنع الزائف، عن مستقبل مصر تحت حكمه، والتي خابت كلها إلا رؤية واحدة. وأقصد حلم الساعة "الأوميجا". وهو بالمناسبة حلم برجوازي صغير يكشف عن أن غرض الحالم من اقتناص المنصب السامي لم يكن إلا التنعم الشخصي بامتلاك مظهر فارغ، وفي الحقيقة مُخزٍ، للثراء الباذخ لا يقدم عليه في مجتمع فقير إلا الحكام الفاسدين الذين نشأوا في بيئة اجتماعية متواضعة ولا يفقهون معنى الثراء الحقيقي؛ في مقابل أن يكون مضمون الحلم رفعة الوطن وأهله، مثل أن يصلي في المسجد الأقصي بعد تحرير القدس، أو ألا يبقى في مصر فقير أو أمي). وهكذا، يفرض السلوك البشري في مواقف الشفقية الثورية تحديات معرفية لا يمكن فهمها من خلال منظومة الاختيار العقلاني الرشيد وقد يتدنس بالمصالح الذاتية النفعية. يحدث هذا خاصة عندما تتوارى ثوابت البنى المجتمعية الأساسية ويتوقف منطق السلوك العقلاني. وهذا هو سبب بحث الناس في مثل هذه المواقف عن نماذج يقلدونها أو يحتذون بها. إن الثورات السياسية الحديثة ليست بالضرورة لحظات عقلانية مكرسة لإقامة العدل والمساواة التي يتبناها الثوريون في خطابهم، ولكنها لا تخلو من عنصر "كرنفالي" مخلخل. وفي أغلب الأحيان بدلا من أن تتيح الحريات والحقوق المرغوبة، تؤدي الانتفاضات الشعبية إلى تركز أقوى لسلطة الدولة وكثيرا جدا إلى معاناة المقهورين لعنف أفظع وقسوة أشد (لعل مصر، حتى الآن، حالة مثال على هذا التنبؤ المؤلم). لكن يبقى، في المضمون، أن الثورة هي لحظة "إمكان نقية"، لحظة تتداعى فيها التراتبيات والمعايير والقيم المستقرة تحت وقع التساؤل عن قيمتها وجدواها. ومن ثم، فإن الثورة ليست إلا نقطة بدء تاريخية وعن الأفق الزمني والتاريخي للثورة الشعبية، يزعم توماسون أنه في حالة الثورة الفرنسية مثلا يتعين ألا نتوقف عند الفترة (1789- 1991)، ولا حتى (1789-1799)، بل يحسن أن نأخذ في الاعتبار الأحداث التي تدفقت بين 1789 و 1815، شاملة الحرب الشاملة وقرب إنهيار الحضارة الغربية. الثورة الشعبية إذن مشروع تاريخي طويل الأجل يتأصل عدم اليقين في نتائجه عند أي لحظة تاريخية بعينها (فلا يحزنن المقهورون حاليا بعد انتفاضة شعبية مبهرة في يناير 2011، ولا يفرحنّ من يظنون أنهم قد امتلكوا الأرض ومن عليها الآن. فيومهم، إثنيهما آتٍ، لا ريب فيه) اضغط هنا لمشاهدة الملف بالحجم الكامل