ربما يكون من مهام الإعلام الرئيسة صياغة أجندة اهتمامات الرأى العام، ولفت الانظار لقضايا دون أخرى، ووضع أولويات للحوار المجتمعي، فإذا ما وضعنا ذلك في إطار عدم استقلال الإعلام وتبعيته في مصر، سواء أكان حكوميا أو خاصا للسلطة، وفي ظل نظرية "حارس البوابة" أى وجود من يقوم بفلترة ما يمر للجمهور وما لا يمر، سواء داخل المؤسسة الإعلامية أو خارجها، فيمكن القول إن تصدر هذه الفترة قضايا هامشية، واستحواذها على مساحة بارزة، مثل الشذوذ والفضائح الجنسية بأنواعها والإلحاد، ليس عفويا، وإنما يأتي بشكل عمدي على الأرجح، لحرف الأنظار عن قضايا مركزية وجادة تمس مصالح الوطن والمواطن، وكان يجب أن تحظى بالتركيز والنقاش دون غيرها، سواء عبر صفحات الصحف والمواقع الالكترونية أو قنوات التليفزيون. لكن تجاهل هموم الناس لصالح تضخيم أمور ثانوية، لا يعني سوى الالهاء والتغطية على أزمات شديدة الوطأة، ومسائل حيوية كالحقوق والحريات المهدرة على كافة المستويات، والانقسام المجتمعي الحاد وفقدان الأمل وشيوع اليأس والإحباط العام، بالإضافة إلى التدهور المتواصل للأحوال المعيشية، وسقوط فئات جديدة باستمرار إلى ما تحت خط الفقر، جراء افتقاد خطة تنموية حقيقية تنحاز للفقراء وليس للأغنياء والفسدة والمستغلين، وغياب آليات مكافحة الفساد، بل والتواطؤ في تقنينه بتشريعات تصدر من وقت لآخر تتيح الافلات من العقاب بالتصالح أو غل يد الرقابة الشعبية، وما يتعلق كذلك بالاستقلال الوطني بالتورط في صراعات خارجية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ولا تصب غير في صالح واشنطن وحلفائها، وما يرافقها من خضوع للإملاءات وتقديم فروض الولاء، وأيضا ما يرتبط بتشوه وتشوش مفهوم العدو الحقيقي للأمة، في ظل التقارب المتزايد مع الكيان الصهيوني، سواء ما يتعلق بالتنسيق الأمني المكثف أو مساع استيراد الغاز الطبيعي منها، بعد أن جرى نهب ثرواتنا، وبيع مواردنا بثمن بخس في صفقة فاسدة جرى تبرئة المتورطين فيها، وعلى رأسهم الديكتاتور العجوز مبارك ورجاله وصديقه. فهل غابت كل هذه الملفات الأولى بالاهتمام، والتى يجب أن تتصدر أجندة الأولويات، ليحتل محلها قضية الشذوذ التي ليست سوى أمر هامشي وفئة لا تتعدى العشرات، أو الالحاد الذي أيضا يمثل انصاره مجموعة لا تتجاوز المئات، وسط شعب قوامه ما يزيد عن 90 مليون، ويدخل ضمن حرية الاعتقاد، أو فضائح جنسية لاتقدم ولا تؤخر، وتخرق مفهوم الخصوصية. وهذه الأمور موجودة طوال الوقت في كل المجتمعات، لكن لأن نسبتها محدودة فلا أثر لها، ولا تأخذ كل هذا الاهتمام والضجة المفتعلة، ولا يوجد ما يستحق تصويره للرأى العام أنه خطر داهم، وأن رجال الإعلام مهمتهم استثارة الجماهير ليهبوا لحماية الأخلاق والفضيلة المهددة، بينما لا يحدث الأمر ذاته مع كل انتهاكات حقوق الإنسان التي تجرى يوميا أو ما يمثل تهديدا حقيقيا لسلامة المجتمع وتماسكه من الشحن والتحريض ومناخ من العدائية بين أبناء الوطن الواحد، وتجاه كل من يختلف مع توجهات النظام الحاكم من المعارضين، خاصة المنتمين لإنتفاضة يناير الشعبية. ويؤسفني أن ثمة إعلاميين يتبارون في العبث في هذه المنطقة المضللة واللاهية، ويتصورون أنهم يحققون انجازا أو سبقا بهذا الدور المأسوف غير المهني، والذي يدخل في خانة الفضائحية أو الثرثرة الفارغة، أو يخدم مصالح السلطة. أخيرا، ما أود التأكيد عليه أن وظيفة الإعلامي ليست بأى حال استثارة الغرائز أو المتاجرة بها أو لعب دور المحرض أو المتلصص أو الواعظ الديني، أو صانع النميمة والتشهير، أو تأدية خدمات لأجهزة أمنية، وأنما دوره يجب أن يكون تنويريا تقدميا، وإن مارس الإعلام التعبئة فلقضايا جادة تهم مصالح الوطن والمواطن وتضيف قيمة ما للجماهير، وليس لخدمة النخبة الحاكمة، مثل تكريس الانتماء، أو زيادة الوعى بالهم العام والتحديات والطموحات الوطنية، أو تحث عن الإنتاج والبناء، وتعلي من قيمة العلم والعمل وحقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية التشاركية والرقابة الشعبية، وتقديم نماذج تصلح كقدوة للأجيال الجديدة من الشرفاء والمخلصين، وأصحاب الانجازات الحقيقية، أما غير ذلك فهو عبث ودور هدام يشتت الأنظار ويلهي عن الهموم الحقيقية وجريمة لا يجب أن تستمر، ويستحق من يتورط فيها عقابا رادعا، حتى لو بشكل معنوي بوضعه في قوائم سوداء أو التوقف عن متابعته ومقاطعته، شخصا كان أو مؤسسة، طالما لا توجد مؤسسات فاعلة معنية بإقرار المهنية وإخلاقيات ممارسة العمل الإعلامي بنزاهة ومصداقية واستقلالية. ------------- *كاتب صحفي Email:[email protected] المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية